د. حسن بن فهد الهويمل
الإنسان العاقل يشقى بعقله، لأنه يُقعِّر الرؤية، ويدقِّق الحسابات، ويستشرف المستقبل، ويتوقّع أسوأ الاحتمالات.
وعندما تصاحبُ المثاليةُ العَقْلَ يشقى الإنسان، حتى ولو كان في بحبوحة من النعيم، لأن عينه تجول في أحوالهم، وكأنه موكل بسوادهم يرقبهم، وكل هِنَةٍ، أو لمم يكبر في عينه، ويظن أن الأحوال كلها في سفال.
استقامة الإنسان العاقل، وامتثاله للقيم، لا توفر له راحة البال، لأنه يخالط الناس المختلفين في كل شيء، ويصيبه دخن من أعمالهم المتناقضة، والتي قد لا تروق له. هَمٌّ في الليل يقلقه، وتعب في النهار يشقيه، والناس يمرون به، ولا يعبؤون بما يعانيه من تخوفات من أجلهم، قد لا يكون لها أي مبرر، وقد يسخرون بانفعالاته. ويرونها من نقص القادرين على التمام: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ}.
تكون سوياً حين تدرك أن الواقع يفرض نفسه، وأن الحياة تقوم على التناقضات، والمداراة، وأن إكسيرها الصراع المبرر، وغير المبرر.
ترويض النفس على التعايش، وقبول الآخر بكل ما يحمله من سلوكيات، قد يخفف وطأة المعاناة، اقبلْ، ولا تُسَلِّمْ، وعايش، ولا ترضى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ}. الحياة تربص، وتماكر.
الحياة ليست واحدة، إنها حيوات متعددة، بعدد أناسيها، كل إنسان أمة وحده. له مسلماته، وأخلاقياته، وقناعاته، وظروفه، وإمكانياته. ومن احتكر الحياة، فهو كمن احتكر الحقيقة، وضاق بالمخالف ذرعاً، مع أن في الأرض مراغماً، وسعة. دنيا نكد، وكبد، شئت أم أبَيْت، فأعِدَّ لها عُدَّةً.
على الرغم من أن وجه الأرض يتسع لكل الاتجاهات: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً}. وتلك تشمل هِجْرة الذات، وهِجْرة (الفكر) المتمثِّل بالهَجْر لما لا يريده الإنسان. قد تكون غَرِيبَ الفكر في مجتمعك، ثم يَضْوى جسمك من المعاشرة المتكلفة: (مالي أكتِّم كُرْهاً قد برى جسدي) مع الاعتذار لأبي الطيب.
التعايش بضوابطه الشرعية لا يعني القبول المطلق، ولا يعني التسليم الأبدي. تُعايش أندادك، وتصالح أعداءك، حتى تجد القدرة على فرض رأيك، وانتزاع سيادتك، من الممكن أن تعايش، وأنت على مضمراتك، وتطلعاتك. وفي الأثر: (نبش في وجوه أقوام، وقلوبنا تَلْعنُهم).
الحياة لا تستقر على حال، والأيام دول، ومن حَكَمْتَه بالأمس، قد يحكمك في الغد، كما جاء في قصيدة (محمود غنيم).
الأمة الإسلامية حكمت العالم، وأدارت شؤونه، وصنعت حضارته، ثم تراجعت عن الصدارة، وخلفها في الحكم، والتسلّط من كانت تحكمه بالأمس: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}. فلا يغر بطيب العيش إنسان:
(هِيَ الحياةُ كَمَا شَاهدتُّها دولٌ
من سَرَّهُ زَمنٌ ساءتْهُ أزْمَانُ)
المهم أن تملك إرادة قادرة على إدارة النصر، والهزيمة بحكمة: {وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُون}. {فِي بِضْعِ سِنِينَ}. وفي النهاية الأمر لله: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء}.
العقل، والبراعة، والحنكة في حسن الإدارة للإقبال، والإدبار، بل ربما تكون أحوج الناس إلى حسن إدارة الحياة في حالة إدبارها.
زمن أمتنا زمن عصيب، ليس فقط لأنه متشبع بقناعات الهوان، والحزن، واليأس، والقنوط، بل لأنه يمارس تدمير الذات ببلاهة، وغفلة، وسوء تصرف.
أمتنا بحاجة إلى عقلاء، عالمين، مجربين يزنون الأمور، ويعيشون مرحلة الجزر بحكمة، وروية. يعايشون، ويدفعون، يدارون، ولا يداهنون. يهشون، ولا يسلمون، ولا يعتريهم يأسٌ، ولا قنوط.
لقد مرت كل الأمم، وكل النحل، والملل، والطوائف، والمذاهب بهزائم موجعة، ولسنا في وضعنا المتردي بدعاً من الأمم.
هذه سنة الله التي لا تتبدل، ولا تتحول. يوم لك، ويوم عليك. وبراعتك في حسن التصرف في الحالين، ذلك ما ينقص البعض منا، وقديماً قيل: (اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم): {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا}.
الله الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والأحد، الصمد. عزيز لا يضام، قوي لا يرام، نَفِرُّ إليه بكل ما يعترينا من ضعف، وهوان.
سائر الخلق حياتهم أطوارُ طفولةٍ، ومراهقةٍ، وشبابٍ، وفتوةٍ، وكهولةٍ، وشيخوخَةٍ، وهرمٍ، وموت.
وعلى العقلاء، التعامل مع كل مرحلة عمرية بما يناسبها، والأمة كالأناسي تمر بذات المراحل:
(وإن سَفاه الشَّيخِ لا حِلْمَ بَعْده
وإنَّ الفَتَى بَعْد السَّفَاهَةِ يحلم)
لقد دخل العالم كله دوامة الفتن، وهان عليه القتل، والتشريد، وإشاعة الخوف، والفوضى الهدامة.
ثم أتبعهم الله بهذا (الوباء) الذي أذل، وأخاف، ودمر الحرث، والنسل، وقضى على كل الآمال.
فيروس أضل الأفهام، وأزل الأقدام، وأشاع الشكوك، والأوهام. وأصبح الإنسان من أجله مؤمن بالله، أو كافر.
لقد كشف عن جهل في الدين، ونقص في التفكير. إنه جند من جنود الله، يعاقب الله به من يشاء، ويبتلي: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ}. {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}.
إنه تخويف، وتذكير.
- فهل من مدكر؟