د.شريف بن محمد الأتربي
تظل مسألة التوظيف هي الشغل الشاغل لكافة المجتمع وأبنائه منذ مولدهم وحتى تخرجهم من الجامعة والبحث عن فرصة للانخراط في سوق العمل، وعلى مدار العهود والأزمنة القديمة كانت الأعمال مقسمة حسب طبقات المجتمع، وكان معروفاً أن كل طبقة تعمل في مجال معين ونادراً ما يشذ عن ذلك أحد خاصة مع محدودية الأعمال وارتباطها بنمط الحياة في المجتمع، فكانت الأعمال تشمل الزراعة والتجارة والفلاحة والحدادة على سبيل المثال لا الحصر.
ومع مرور الزمن والتوجه نحو التعليم والهجرات المتعددة وظهور العديد من المخترعين الذين غيروا من نمط الحياة فأصبح هناك حاجة ملحة لتغيير نمط سوق العمل وظهور وظائف جديدة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بهذا التغير مثل المعلمين والأطباء والطيارين وغيرهم ممن ارتبطت وظائفهم بتغير المجتمع وبالثورات الصناعية المتعددة.
لقد ظلت هذه الوظائف مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بنوعية الدراسة التي تخصص فيها الموظف قبل التقديم على العمل، فكان من الصعب على غير المتخصص الالتحاق بوظيفة معينة يمتلك مهارتها ولكنه لا يمتلك شهاداتها، مما أفقد المجتمع بل والمهنة نفسها كفاءة كان من الممكن أن تنتج وتبدع أكثر ممن تخصص في هذا المجال.
ومنذ فترة خرج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب علينا بقرار يدعو إلى التركيز على المهارات أكثر من الشهادات، لأن الشهادة لا تعني بتاتاً أن صاحبها على درجة عالية من الكفاءة، الشيء الذي يحرم الإدارات من كفاءات ومهارات كثيرة، يمكن أن تساعد على تطوير أدائها.
في أميركا، الرهان كبير على المهارات (skills)، ثم المعرفة (knowledge )؛ وتعتمد أغلب الجامعات على التعليم الإلكتروني (E-learning) باعتباره يمنح فرصاً كبيرة لتطوير التعلم والتي تتزامن مع فرص تبادل المعرفة والمهارات عبر الاحتكاك والتجربة.
وقبل تصريح الرئيس الأمريكي كانت بعض الشركات الأمريكية الكبرى مثل غوغل وفيسبوك وأمازون تغاضت عن شرط الشهادة الجامعية في عملية التوظيف، وأصبحت تشترط أولاً وقبل كل شيء المهارة والكفاءة. وسيراً على هذا النهج فإن شركة IBM قد قامت بتعيين 15 بالمائة من قوتها العاملة، من خلفيات غير تقليدية في العام الماضي 2018 ، وذلك على أساس المهارة بدلاً من المستوى التعليمي. ناهيك عن شركة أبل نفسها والتي يرأسها بيل جيتس والذي بنى هذه الإمبراطورية بناء على المهارة وليس الشهادة. كما ألغت جامعات كثيرة في أميركا نظام المحاضرات وأصبحت تعتمد على البحث باعتباره أفضل طريقة لاكتساب المهارات، وباعتبار التعلم الذاتي كذلك ركيزة أساسية لتطوير المهارات واكتساب المعرفة، سواء عبر الإنترنت أو الكتب أو الوسائل الأخرى التي تلعب نفس الدور.
ويظهر من ذلك أن هناك العديد من الأعمال التي قد تعتمد كلياً على أصحاب المهارات قبل أصحاب الشهادات وخاصة في الجوانب التقنية والمبيعات وإدارة المشروعات والتي يحتاج أصحابها إلى مهارة متميزة لتنفيذ الأعمال وتحقيق الأهداف أكثر من حاجاتها إلى شهادات؛ وهذا مؤشر خطير جداً يشير إلى أن هناك الكثير من الشهادات التي قد لا يجد أصحابها وظائف بسهولة أو قد لا يجدون وظيفة مطلقاً ما لم يتميزوا بمهارتهم إلى جانب شهاداتهم.
وهذا يقودنا إلى التساؤل المطروح في هذا المقال: التمهير أم المهارة؟ فالمهارة هبة من الله تعالى يمكن أن تنمى من خلال التمهير، وكلما كانت المهارة مبنية على علم وتأهيل كلما ساعد ذلك على سرعة التمهير.
ورغم التوجه العالمي وخاصة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية نحو الاستفادة من الكفاءة بغض النظر عن التأهيل إلا أن الدراسة العلمية ينبغي أن تكون متزامنة مع التمهير، وكذلك يجب النظر إلى الاستفادة من التقنيات الحديثة وتوظيفها في العمليات التعليمية على مختلف المستويات، فتتبع تعلم الطالب وتوجهاته العلمية والمهارية عبر رصد كافة البيانات المتعلقة بتعلمه سواء داخل الفصل أو خارجه (البيانات الضخمة Big Data) إلى جانب الذكاء الاصطناعي (AI) Artificial Intelligence يمكن أن يحدثا الفارق ونستفيد من المهارة في بدايتها ونعمل على تمهيرها.