بكري عساس
في مطالع القرن الميلادي الماضي وقف شاعران: مشرقيٌّ ومغربيٌّ يَنْعيان واقعَ اللغة العربية، ويَبْكيان ما آلتْ إليه، ويُهيبَان بأبناء الإسلام والعروبة أن يتداركوا ويدركوا، عسى أن يعود العربُ للعربية مقبلين محبين، وترجع العربيةُ للعرب عروساً مجلوَّة تسرُّ الناظرين.
أما المشرقي فشاعر النيل حافظ إبراهيم، الذي أطلق صرخته الشهيرة:
فلا تَكلوني للزمان فإنني
أخاف عليكم أن تحينَ وفاتي!
وأما المغربي فهو السياسي والأديب عَلال الفاسي الذي أعلنها صريحةً:
والقاذفون لها بالعجز ما جَهلوا
بأنها فوقَ ما ظنوا وما اعتَقَدوا
ومنذ ذلك التاريخ وأحباب العربية ورجالاتها ومخلصوها يتداعَون بحثاً، وتحليلاً، وتفكيراً، واقتراحاً لعلهم يفلحون في رَسْم ملامح واقعٍ جديد للغة القرآن المبين، ولسان أشرف المرسلين.
ولستُ أقللُ من جُهْد أحدٍ ولا عطائه، فقد بُذلَ الكثير، ولكن الواقع ما زال يشهد بأنَّ بيننا وبين ما نؤمله للعربية شَوْطاً طويلاً، لا يقطعه إلا الأشداء من ذوي العزائم والإخلاص.
وقد أفضى بي التأمُّل والنظر إلى أنَّ ملامح الواقع اللغوي المنشود لا ترتسمُ إلا عَبْرَ ثلاثة أركان:
إرادة سياسية، ورؤية علمية، ومشروعات عملية.
فالإرادة السياسية تفرضُ، والرؤية العلمية تعرضُ، والمشروعات تزاوج بين هذين في آلية تَنْهضُ وتُنْهضُ.
إن بلادنا هذه: بلاد الحرمين الشريفين المملكة العربية السعودية هي حاملة العبء الأكبر في مسؤولية التجديد اللغوي، نظراً لاجتماع هذه الأركان فيها -ولله الحمد والمنة.
فالإرداة السياسية لسيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في خدمة العربية ظاهرة، تتمثَلُ تجلياتُها في مبادراته لإثراء المحتوى العربي التي جعلتْ من المملكة -بحمد الله- أكثرَ الدول العربية إثراءً للمحتوى العربي على الشبكة العالمية للمعلومات، وفي قراراته الإلزامية بجعل اللغة العربية في المكاتبات الرَّسْمية، والدوائر الحكومية، والسجلات التجارية.
والرؤية العلمية تنسجها عشراتُ الكليات الأكاديمية، والمؤسسات العلمية السعودية، التي تعتني بشأن اللغة العربية، وتنشُرُ من أجلها البحوثَ، وتُقيم الملتقيات والمؤتمرات.
والمشاريع العملية كثيرة لعلَّ من أضخمها وأكبرها الملتقى التنسيقي للجامعات والمؤسسات المعنية باللغة العربية في دول مجلس التعاون لدُول الخليج العربية، الذي نظمه منذ فترة مركزُ الملك عبد الله بن عبد العزيز الدَوْلي لخدمة اللغة العربية في الرياض.
إذن.. هذه بلاد مباركة التقَتْ فيها ثلاثيَةُ التمكين للعربية عَبْرَ إرادة سياسية، ورؤية علمية، ومشاريع عملية.
قال شاعر النيل حافظ إبراهيم في قصيدته (اللغة العربية):
أيهجرني قومي عفا الله عنهم
إلى لغة لم تتصل برواة؟!
سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى
لُعَابُ الأفاعي في مسيل فرات