د.صالح بن عطية الحارثي
امتلأت المؤلفات وعموم الكتابات التي تناولت الأخطاء الطبية بالنصائح والتدابير الواقية -بفضل الله - من الوقوع في الخطأ الطبي، إلا أنَّ مِنْ أبرز ما ذُكر في هذا الصدد ما سطَّرته يَرَاعَةُ العلَّامة ابن قيم الجوزية -رحمه الله-، فقد ذكر أن هناك عشرين أمرًا ينبغي للطبيب الماهر والممارس الصحي الحاذِق مراعاتُها والأخذ بها؛ ليكون تطبيبه -بعون الله وتوفيقه- صائباً، وعلاجه -بإذن الله- نافعاً ناجعاً:
قال: «والطبيب الحاذق هو الذي يراعي في علاجه عشرين أمرًا».
وسأقتصر على ذكر أبرزها وأهمها في رأيي، ومن رامها كلها فليرجع -إن أحب- إلى الجزء الرابع من السِّفْر ذي الشهرة الطائلة «زاد المعاد في هدي خير العِبَاد».
وإليك هذه الأمور:
- النظر في نوع المرض من أيِّ الأمراض هو؟
- النظر في سببه، من أيِّ شيء حَدَث؟ والعلة الفاعلة التي كانت سبب حدوثه ما هي؟
- قوة المريض، وهل هي مقاومة للمرض، أو أضعف منه؟ فإن كانت مقاوِمة للمرض، مستظهرة عليه، تركها والمرضَ، ولم يحرِّك بالدواء ساكنًا.
- سن المريض (فلسن المريض مثلا اعتبار ووزن في تحديد جرعة التخدير زيادة ونقصا)، وعادته، والوقت الحاضر من فصول السنة وما يليق به، وبلد المريض وتربته، وحال الهواء في وقت المرض، والنظر في الدواء المضاد لتلك العلة، النظر في قوة الدواء ودرجته، والموازنة بينها وبين قوة المريض.
- ألا يكون كلُّ قصده إزالة تلك العلة فقط، بل إزالتها على وجه يأمن معه حدوثَ أصعبَ منها، فمتى كان إزالتها لا يؤمن معها حدوث علة أخرى أصعب منها أبقاها على حالها، وتلطيفها هو الواجب.
- أن يعالج بالأسهل فالأسهل، فلا ينتقل من العلاج بالغذاء إلى الدواء إلا عند تعذره، ولا ينتقل إلى الدواء المركَّب إلا عند تعذر الدواء البسيط، فمن حِذْقِ الطبيب علاجه بالأغذية بدل الأدوية، وبالأدوية البسيطة بدل المركبة.
- أن ينظر في العلة هل هي مما يمكن علاجها أو لا؟ فإن لم يمكن علاجها، حَفِظَ صناعته وحُرمته، ولا يحمله الطمع على علاجٍ لا يفيد شيئًا. وإن أمكن علاجها نظَر هل يمكن زوالها أم لا؟ فإن عَلِمَ أنه لا يمكن زوالها، نظر هل يمكن تخفيفها وتقليلها أم لا؟ فإن لم يمكن تقليلها، ورأى أن غاية الإمكان إيقافها وقطع زيادتها، قَصَدَ بالعلاج ذلك.
- أن يكون له خبرة باعتلال القلوب والأرواح وأدويتها. وذلك أصل عظيم في علاج الأبدان، فإن انفعال البدن وطبيعته عن النفس والقلب أمر مشهود، والطبيب إذا كان عارفًا بأمراض القلب والروح وعلاجها كان هو الطبيب الكامل، والذي لا خبرة له بذلك -وإن كان حاذقًا في علاج الطبيعة وأحوال البدن- نصفُ طبيب. وكل طبيب لا يداوي العليل، بتفقد قلبه وصلاحه، وتقويةِ روحه وقواه بالصَّدقة، وفعل الخير، والإحسان، والإقبال على الله والدار الآخرة، فليس بطبيب، بل متطبِّب قاصر. ومن أعظم علاجات المرض: فعلُ الخير، والإحسان، والذِّكر، والدعاء، والتضرع، والابتهال إلى الله، والتوبة، ولهذه الأمور تأثيرٌ في دفع العلل وحصول الشفاء أعظم من الأدوية الطبيعية، ولكن بحسب استعداد النفس، وقبولها، وعقيدتها في ذلك ونفعه.
- التلطف بالمريض، والرفق به، كالتلطف بالصبي.
- أن يستعمل أنواع العلاجات الطبيعية والإلهية، والعلاج بالتخييل (واليوم يقولون: الجسم السليم في التخيل السليم)، فإن لحذاق الأطباء في التخييل أمورا عجيبة لا يصل إليها الدواء، فالطبيب الحاذق يستعين على المرض بكل مُعينٍ.
ولا غرابة فهناك اليوم ما يسمى العلاج بالتصور، حتى أن الذين استخدموا التخيل جنبا إلى جنب مع العلاج الطبي عاشوا مدة أطول -بمقدار الضعف- من الذين تلقوا رعاية طبية فحسب، ولا شك أنها آجالهم.
الأمر العشرون وهو الأخير مما ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله قال: وهو ملاك أمر الطبيب أن يجعل علاجه وتدبيره دائرًا على ستة أركان: حفظ الصحة الموجودة، ورَدّ الصحة المفقودة بحسب الإمكان، وإزالة العلة أو تقليلها بحسب الإمكان، واحتمال أدنى المفسدتين لإزالة أعظمهما، وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعظمهما، فعلى هذه الأصول الستة مدار العلاج، وكلُّ طبيب لا تكون هذه آخِيَّتَهُ (أي: أصلًا وقاعدةً له يرجع إليها) التي يرجع إليها، فليس بطبيب. والله أعلم.