محمد آل الشيخ
الخلاف على قبول التطعيم أو التشكيك فيه، أو حتى رفضه بالكلية، قضية رافقت كل الاكتشافات الطبية في بداياتها وخصوصاً اللقاحات. ويختلف الرفض ودوافعه من شخص إلى آخر، ومن ثقافة إلى ثقافة، وأحياناً من دولة إلى أخرى.
التطعيم ضد الجدري - على سبيل المثال - كان قد واجه نفس المشكلة في المملكة نهاية الخمسينات من القرن الماضي، التي يواجهها اللقاح ضد كوفيد 19 الآن، وكان تحفُّظ أغلب المتشككين آنذاك ديني وعن جهل، أو لأن المخترعين غير مسلمين. وقد أشار الباحث الاجتماعي العراقي الشهير على الوردي إلى هذه القضية، وذكر أن التطعيم من أحد الأوبئة التي اجتاحت العراق آنذاك، واجه رفضاً من رجال الدين المسلمين بحجة أنه لم يؤثر عن السلف الصالح هذه (البدعة)، وأن المسلم يجب أن يؤمن بقوله تعالى : (قُل لَّن يُصِيبَنَا إلا مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا)، فهلك بسبب هذا التعصب كثيرون كما يقول، بل روى في أحد كتبه أن هذا الوباء قضى على أهل قرى بكاملها، بينما أفتى حاخامات اليهود بالحجر، وأباحوا التطعيم، فلم يمت من اليهود إلا نسبة قليلة مقارنة بموتى المسلمين.
ويذكر لي أحد الأصدقاء عن أحد أقاربه من كبار السن أن لقاح الجدري واجه في نجد نفس التشكيك والشائعات التي يواجهها لقاح كورونا الآن؛ وقد روى له قريبه أن قريتين متناكفتين من قرى نجد واجهوا هذه المشكلة عند استقدام اللقاح، فإحدى هاتين القريتين أفتى لهم (المطوع) بجواز التطعيم - وكان يُسمى حينها (التوتين) - في حين ناكفه مطوع القرية الأخرى، وأفتى بعدم الجواز، وعندما أتاهم الممرض المعني بإعطاء اللقاح، سخروا منه، وقالوا له: هذي (حمارة آل فلان) جرِّب عليها (دواك)، وفي السنة المقبلة جاءت موجة من وباء الجدري فحصدت أرواح كثير من سكان هذه القرية التي رفض أهلها التطعيم، في حين نجا كل من تلقى اللقاح من القرية الأخرى، بعدها تكالب الناس على اللقاح طلباً (للتوتين)، الأمر الذي جعل وباء الجدري ينتهي من المملكة ومن العالم أجمع تقريباً. وسبق أن قرأت أن ثمة قبائل باكستانية ترفض حتى الآن لقاح أطفالهم من شلل الأطفال، لأن شيخاً زعم أن (الكفار) الذين يطعِّمون أطفالهم يحقنونهم بأدوية تمنع الإنجاب، ولا يجوز الثقة بهم، وأن هذا التلقيح (مؤامرة) من قبل الغرب، لاجتثاث المسلمين من العالم، وحذرهم منه. وما زالت مناطق في الريف الباكستاني يعاني بعض أطفالهم من الإعاقة بسبب هذه الخرافات.
ورغم أن هناك نصوصاً دينية صريحة تدعو بوضوح وبشكل مباشر إلى الحجر والعزل في حالة انتشار الأوبئة، إلا أن بعض المتشددين المتأسلمين (أنكر) على حكومة المملكة تعليق الصلوات في المساجد، والاكتفاء بعدد محدود من الحجاج لإقامة هذه الشعيرة. ودائماً هناك من يُزايد ويتصيد على حكومة المملكة، رغم أنهم يدركون أن الفتوى بذلك قد صدرت من هيئة كبار العلماء؛ بيد أن هؤلاء المنشقين في الخارج، الذين يتصيدون ما وسعهم التصيد، ويصعدون ما وسعهم التصعيد، غير آبهين بأي ضوابط تكبح نزواتهم غير المسؤولة.
وهنا لا بد من الإشارة بكل فخر إلى الإجراءات والاحترازات التي اتخذتها حكومة خادم الحرمين الشريفين لمواجهة هذه الجائحة منذ البداية، وبأسلوب حازم، كانت أحد أهم الأسباب -بعد توفيق الله- الذي جعلنا في طليعة من تصدوا لهذا الوباء والأرقام تشهد، الأمر الذي أدى إلى أن الموجة الثانية من الوباء، تمر دون أن نتأثر بها، أو أن أثرها في غاية التدني.
وفي تقديري أن القطاع الصحي، وبالتحديد القسم المضطلع بمكافحة الأوبئة والأمراض المعدية، كان يملك خبرات متراكمة بسبب التعامل السنوي مع موسمي الحج والعمرة، وهذا ما ميَّزنا عن غيرنا، ومكَّن المسؤولين عن القطاع الصحي من التعامل مع هذه الجائحة بمهنية أدت إلى قدرتنا على تجاوز الوباء بأقل خسائر بشرية، خاصة إذا قارنا أعداد المصابين والوفيات بأعداد سكان المملكة الذي يصل إلى ما يزيد على الثلاثين مليوناً. كما أن سرعة استيراد أفضل أنواع اللقاحات، وترتيب تطعيم المواطنين والوافدين بها، كانت أيضاً محترفة وفي غاية التنظيم.
حفظ الله بلادنا، وكل بلاد العالم، وجنَّبها الأمراض والأوبئة والجوائح.
إلى اللقاء