أي رحلة علم تقتضي أن يعد الإنسان نفسه بعدة وعتاد، والخُلق أول هذه العدة لأن في الطريق عقبات كثيرة تعوق المسير لكن الأخلاق الحسنة تُسهل السير وترتفع بالواقع البشري إلى درجة مُرضية.
العلم بمعناه الواسع وأيًا كان مجاله لا يكتمل إلا إذا ضم ركنه الأصيل ضمن أطره وفوق سماواته، ولا يصبح علمًا حقيقيًا يروي ظمأ القلب إلا إذا قُدم الخُلق الحسن سببًا ومُسوغًا ونتيجة!
هناك خلاف أزلي ناقشه الفلاسفة والمتكلمون حول ماهية الأخلاق، لكن الإسلام أتى بميزان واضح وصريح للأخلاق وماهيتها، أسس لهذا الأمر الجليل في الحياة فعلمنا إنما الدين المعاملة، المعاملة التي تمتد في جميع جوانب الإنسان.
والاتفاق سواء في الصدور أو السطور أن الخُلق هو الذي ترضى أن يعاملك به الناس والعكس صحيح.
إذا اجتمع الأمران: حسن الخُلق وجدة طلب العلم نستطيع أن نتصور الفاعلية القوية لتلك النفوس وهي تعمل في واقع الحياة.
إما إذا اختل ركن منها سنشهد أزمة هبوط مسف، لا يمكن أن نتصور علمًا بدون حسن خلق إذ إن الأخلاق مقدمة وهي بوابة تهذيب النفس لنيل أعلى الدرجات.
الأخلاق لا بد أن تكون سلوكاً واقعياً ليست مجرد مشاعر أو اعتقادات أو قضايا ذهنية تجريدية باردة.
حين يكون الإنسان نديّاً في مرحلة طلب العلم تتجلى له آفاق لم يكن ليراها، وحين تكون الأخلاق ذات رصيد قيمي حقيقي فليس من السهل أن تسقط ولو سُلطت عليها عوامل الفساد.
العلم يهب طالبه اللغة ولكنه لا يمنحه الخُلق، كلما اتسع خلق الانسان تفتحت مسامه لتشرب نور هذا العلم بصدق أكبر وبأقصى درجة.
العلم طريق قد ينتهي في حياة الشخص لكن الأخلاق ليس لها وقت محدد، وهي تجعل الحياة أكبر من الحياة ذاتها، وتعمق الأمر ليبدو أثمن مما هو عليه وهذا الشيء لا يفهمه الذين قصروا عن نهج الأخلاق للأسف.
يتعلمون عن الخُلق لكن التعليم النظري بدون اقترانه بالواقع التطبيقي خبرة ناقصة مالم يتم سدها بالفعل.
قد تتأثر الأخلاق بعامل التفوق الشخصي والنزعة إلى النبوغ، هذه مناطق في أنفسنا تحتاج إلى صقل وإلى تهذيب وإلا أصبحت خالية من قيم الآداب وفضائلها.
التعدي والتطاول غير المبرر في فضاء العلم وقدسيته المباركة يعد نوعًا من الجنوح إلى مآزق فكرية لا يستطيع معها الإنسان الفقير إلى الخُلق التعامل معها.
حين لا نتعلق (بهوس) بذواتنا ويكون الحق أعز علينا من أنفسنا ووصولنا إليه عن تدبر ستتضح الرؤية.
لكن إذا كانت الدوافع الأخلاقية للشخص خاطئة فلا يمكن لأي شيء أن يكون صحيحًا.
الأخلاق تدعو إلى السمو بالإنسان تتحد روابطها بإرادة الشخص الصادق الذي لا يبحث عن استحسان الغير أو محاولة فرض السيطرة عليهم أو أخذ الحياة بسيف وحرب!
الحياة فعلاً ليست قسائم ترفيه وليست مدينة أفلاطون الفاضلة وليست على درجة عالية من الكمال، لكن الذي يقع على الشخص أن يحاول أن يجد لكل مقام مقالاً، ولكل حادث حديثاً، ويعلم طريقة الدخول إلى أبواب العلم وكيفية احترام العلماء ووضعهم في أماكنهم التي أقرتها العقول وجُبلت عليها النفوس من دون مبالغة أو تفريط.
نحن بحاجة ماسة إلى تفعيل الدور الأخلاقي في مجالات العلم والثقافة حتى تخرج شخصيات موزونة تتفاعل بطريقة سليمة مع ذواتها أولاً ومع الغير ثانياً.
** **
- رباب محمد