من مستوقفاته غير ما ذكرتهما: تخصيصه الشِّعر بالعربيِّ، وتسميته للمخالفات ظواهر، والحكم بالقطع: «بلا شكٍّ»، وذكره للقوانين بالصَّرامة وهو يعلم بالشِّعر الحرِّ والشِّعر المرسل.
4 - قوله بعد ذكره الأبيات: «على لهجة عربيَّة ما زالت مسموعةً إلى اليوم تسكِّن الضَّمير في (لَهْ)، ولولا الوزن لما بقي لنا هذا السِّجلُّ على بعض اللهجات المنطوقة قديماً، وتلك اللهجة هي لهجة (سراة الأزد)، ... فلقد نصَّ الأخفش الأوسط على أنَّ ذلك لهجة (سراة الأزد)، واستشهد بالبيت، حين برم بعض النُّحاة بالبيت فعزوا ما ورد فيه إلى الضَّرورة الشِّعريَّة من حيث أقفلت عقولهم على عربيَّة لا تختلف في شيء عن قواعدهم».
في نصَّه هذا عديد من المستوقفات منها:
أحدها: ما يسمع الآن في اللهجات أهو دليلٌ وحجَّة على ما كان موجوداً أم السَّابق دليل على أصالة اللاحق؟ وكيف يُحكم بكلام المتأخر على المتقدَّم؟ هذا أمرٌ غير سويٍّ في التَّأصيل، بل منتقص ومنتقض.
ثانيها: هنا واردني سؤال هو: ما سبب عدم اهتدام النَّحويِّين لهذا البيت، وتعديله كما عدَّلوا غيره - كما يذكر البروف- ليسلموا من الاحتجاج عليهم به، والاعتراض به على قواعدهم، وكيف نجا من عدوانهم، وفوق ذلك دوَّنوه في كتبهم ليكون غصَّة عليهم، وكاشفاً خبيئة ما صنعوا؟
ثالثها: ما دليله على ألاَّ يكون ذلك ضرورة شعريَّة كما حكم بها علماء العربيَّة؟ وهم أقرب إلى ذلك عهداً وزماناً وعلماً!، وأمَّا قوله: «لولا الوزن لما بقي» فهذا غير صحيح، بل لولا قول الأخفش إنَّه لغة القوم لما قال بروف: عبد الله ذلك، فلا علاقة للوزن بذلك لأنَّ الشِّعر محلُّ اضطرارٍ، وترتكب فيه المخالفات، والأخفش له مذهب في الضَّرورات فهو يسمِّي بعضها لغة الشِّعر. فلا يُغفلنَّ عن ذلك!
والأمر آنئذٍ يدور بين قول الأخفش: إنَّها لغة وبين قول غيره من النَّحويِّين الَّذين يقولون: إنَّها ضرورة، ويعالج الأمر بالمناقشة العلميَّة والمفاتشة النَّحويَّة الأصوليَّة بين الرَّأيين، بشرط أن يكون المعالج من ذوي الاختصاص ليكون أهلاً لذلك، ويرجَّح ما يراه راجحاً بدليله وبرهانه لا برغبته وهواه.
ومعلوم أنَّ دلالة مصطلح الضَّرورة في النَّحو مسألة خلافيَّة بينهم ثنائيَّة إجمالاً رباعيَّةً تفصيلاً، وللأخفش رأي خاصٌّ يعدُّ رأياً ثالثاً فيها، وكان يسمَّيه لغة الشِّعر، والمسألة أصوليَّة تأصيليَّة ينظر فيها من النَّحويِّين من كان متخصَّصاً في أصول النَّحو.
رابعها: ما المعيار الَّذي جعله يأخذ برأي الأخفش ويترك قول الآخرين؟ والآخرون هم الجمهور! أم الأمر رغائبيُّ أم أنَّ ذلك مسموع الآن في بلادٍ ما، وهو لم يحدَّد المكان المسموع فيه واكتفى بأنَّه (لهجة سراة الأزد)، هذا مع أنَّ عصر الاحتجاج انقضى زماناً ومكاناً، وانتهي لأكثر من عشرة قرون!
قلتُ معلِّقاً: ههنا يُطَّرح سؤال: أكلُّ شعر أزد شنوءة أو دون ذلك قل: أشعر (يعلى الأحول) كان فيه هذا الأمر أو هذه الظَّاهرة كما يحلو للبروف تسميتها أعني إسكان الضَّمير أم هو فقط في بيتٍ واحدٍ من قصيدة كاملةٍ في ديوان كاملٍ= يحتاج السُّؤال إلى جواب. وربَّما الأمر عند بروف: عبد الله أنَّ النَّحويَّين غيَّروا كلَّ قصائد الدَّيوان، وكلَّ قصائد الأزد ليمحوا هذه الظَّاهرة كما يسمِّيها؛ فحرَّفوا الظَّاهرة فكانت نادرة، وندَّ منهم البيت المذكور فسلم فحفظ لنا هذه اللغة؛ أو ليس القول بالضَّرورة أسلم ما دام أنَّ الشَّاعر في قصيدته كلَّها، وقصائد ديوانه ما أتى بمثل ذلك؟
خامسها: قول البروف: «سراة الأزد» منتقدٌ، إذ كيف أضاف السَّراة إلى الأزد؟ فعلى هذا يكون المعنى أنَّ هذه اللهجة لغة كبراء الأزد أمَّا سوقتهم وعبيدهم فليست هي لغة لهم؛ لأنَّ سراة القوم أشرافهم، والصَّواب في ذلك أن يقال: أزد السَّراة، ولو قال: أزد شنوءة لكان أحسن، ولو قال: لغة زهران وغامد وقرن وثمالة لكان أفضل وأدقَّ إبانةً.
سادسها: خذلان لفظ منه جاء في النَّصِّ وذلك بالهزء بالنَّحويِّين بأنَّ عقولهم أقفلت على عربيَّة قواعدهم. وهو شَعَرَ أم لم يشعر أنَّه يكتب بعلمهم وما دوَّن هذا الحرف إلاَّ بفضلهم، وما ارتقى المراقي العلميَّة إلاَّ بالتزامه قواعدهم نطقاً وخطًّا، وما كتب بحوثه العلميَّة إلاَّ وَفق قواعدهم، بل ما دوِّنت العلوم العربيَّة كلُّها مذ عصر التَّدوين إلى يوم النَّاس هذا إلاَّ وفاق قواعد النَّحويِّين، ثُمَّ يأتي مَن يهتِّر النَّحويَّين ويتنقَّص من عقوله م ولكنَّه خذلان لفظٍ، على أنَّ بروف: عبد الله يأخذ هذه الأحكام والشَّواهد من كتب النَّحويِّين، فالَّذي قال: إنَّها لغة قومٍ نحويٌّ، والَّذي قال: إنَّها ضرورة نحويٌّ آخر؛ فأخذ البروف بقول الأوَّل لأنَّه وافق هواه وترك قول الآخر، بل ذمَّه لأنَّه خالف هواه، وما هذا في البحث العلميِّ لا في أرضه ولا سمائه، ولا بذيله ولا رأسه؛ لأنَّ التَّحيُّز يخرج البحث والباحث من العلميَّة إلى رغبةٍ تقودها العاطفة.
5 - أورد بروف: عبد الله بعد ما سَبَقَ قوله: «فيما حوَّر آخرون البيت ليستقيم وتلك القواعد، فجعلوه:( ومطواي من شوقٍ له أرقان) وليذهب الشَّاعر ولهجته وأمانة الرِّواية إلى الجحيم».
هذا طعن بارق شارق بالنَّحويِّين بلا دليل، واتِّهام لأمانة القوم بلا برهان، ولو قيل في البروف مثل ذلك لبرم ما قبله، ولربَّما أقام عليه في المحاكم الدَّعاوى. قلتُ: دونه تراجمهم تذكر أمانتهم ودقَّة تحرَّيهم، وعلم النَّحو وقواعده كُتبَتْ ودوَّنَت ودرِّست لا في سراديب ولا في خفاء بل علانيةً في جوامع البصرة والكوفة وبغداد، فلم تكتب تلك القواعد وتطوى وتخفى من ذاك الزَّمن ثُمَّ أُظهرت في هذا الزَّمان؛ ليقال: لقد تلاعب النَّحويُّون بلغة العرب وبدَّلوها.
ما هذا القول بقولٍ! شده قولاً هذا القول! ما أحقبه! وأتعس به! ألم يعلم بروف: عبد الله أنَّ النَّحو ظهر والعرب متوافرون، والرَّواة موجودون، وعصر الاحتجاج زماناً ومكاناً مشرَّع لم يغلق بابه، وأرضه عامرة وقبائله صادرة وواردة، فلو كان كما يقال للجم في حينه وعُدِّل وصحَّح وقوَّم، وينضاف إلى ذلك وجود مدرستين متنافستين ولو وقع من ذلك شيء لشنَّع طرفٌ بطرفٍ في ذلك، ولطعن بالفاعلين، ولكن هيهات فالقوم أهل ديانة وأمانة!
هذا وكتاب سيبويه بين يدي النَّاس، وهذه كُتُب مجالس النَّحويَّين مصنَّفة شاهدة على الأمانة والدَّقة والضَّبط. ثُمَّ ما دليل البروف أنَّ البيت برواية الضَّرورة هو الأصل، وأن البيت في الرَّواية الأخرى هو المعدَّل؟ ولمَ لا يكون العكس؟! لا دليل على ذلك عند البروف - فيما يظهر لي- فإن كان كذلك فالمتَّبع الرَّغبة والهوى، على أنَّه سيذكر بعد هذا أنَّ النَّحويِّين اصطنعوا الإقواء وأدخلوه في الشِّعر، قلتُ: لِمَ لَمْ يكن ما في هذا البيت صنيعة أخرى من صنائعهم؟!
ونزولاً على رغبة البروف وعند طرحه لمَ جعل التَّغيير وتحوير البيت من أصله من صنع النَّحويِّين وليس من الرُّواة ونقلة الأشعار ولو احتمالاً، وذلك لاختلاف لغة الرَّاوي عن لغة الشَّاعر مثلاً= هذا إن ثبت لديه أنَّ البيت ذا الضَّرورة هو الأصل! ومن المعلوم أنَّ العربيَّ الفصيح إذا كان الكلام ليس من لسانه فإنَّه يرويه بلسانه؛ فيأتي للبيت روايتان، فتثبت الرِّوايتان في كُتُب النَّحويَّين، وليس ذلك من تصرَّف النَّحويِّين قطعاً، وقد كان دافعهم لتقعيد القواعد صيانة القرآن من تسرَّب اللحن إليه فاحتاطوا ضبطاً ودقَّةً ودقَّقوا من أجل ذلك حتَّى بلغوا الغاية أو كادوا، وأوفوا على الكمال فما حادوا، فلم يتركوا شاردة ولا واردة إلاَّ دوَّنوها، وجهدوا في استقصائها بحثاً عن ذلك، وأجهدوا أبدانهم وأذهانهم خدمة للعربيَّة تلقِّياً لذلك من أفواه العرب ورواة أشعارها ولغاتها، وضربوا في مناطق العرب تدويناً واستنطاقاً، كلُّ ذلك بدقَّةٍ وضبطٍ على غير سابق مثالٍ معهودٍ.
وفي التَّنزُّل على قول بروف: عبد الله أنَّه يتَّهمهم بأمانتهم وبتصرُّفهم بلغة العرب؛ إذن ليجعل ذلك احتمالاً من الاحتمالات ولا يقطع به، غير أنَّ النَّاظر في قوله يراه قطع أنَّه تصرُّف منهم بلغة العرب.
وقد حكم على الشَّاعر والرَّاوي والرِّواية والأمانة واللهجة بجهنَّم، وأقلُّ ما يقال في هذا الأسلوب وهذه اللغة الجهنميَّة أنَّه غير ناضج وغير علميٍّ بل انفعاليٌّ، ولا مورد له في العلم وفي أروقته ولا بين أهله.
6 - ساق بروف: عبد الله بعد ذلك كلاماً على القوافي فجاء طرحه فيها على النَّقيض ممَّا سبق طرحه، ففي المقطع الأوَّل انطلق من الأبيات هاجماً وهامجاً على النَّحويِّين، وهنا انطلق من النَّحويِّين هاجماً على الأبيات، والأبيات في الأوَّل وفي الثَّاني مدوَّنة في كتب النَّحويِّين، لكنَّ اختلاف المنهج في المعالجة يؤدِّي إلى اضطراب في التَّصوُّر واختلال في العرض وأخطاء في النَّتائج، وسأورد شيئاً من ذلك أجمالاً.
أولاً: قلتُ معقِّباً: أنَّ بروف: عبد الله طعن بالإقواء، وذكر أنَّه من اختراع النَّحويَّين تنظيراً وتطبيقاً؛ أي: صنعوه وخرجوا به إلى الأبيات فعدَّلوها، وإلاَّ فالأبيات لا إقواء فيها على أنَّها لم ترد بلا إقواء عند أحدٍ ولا في كتابٍ، وبل هذا تخرُّص من البروف أنَّها كانت بلا إقواء، ثُمَّ عدَّلها النَّحويُّون وأقووا فيها؛ فهنا ترك بروف: عبد الله الحقيقة الماثلة أمامه عياناً وأغفلها واحتكم إلى الوهم والتَّخرُّص، فالملحوظ عليه أنَّه ترك الموجود واحتكم إلى المفقود، وما ذلك إلاَّ تبعاً لرغبته وهواه، وفي المقطع الأوَّل بدأ من الموجود لكن فسَّره على الوهم أو على أحد الآراء وترك غيرها بلا دراسة للآراء ولا مناقشة، فسار على تثلُّم وَهَمٍ وغلبة هوى تحفُّهما عاطفة غضبى على النَّحويِّين، ولا عجب فالعاطفة تهوي بصاحبها وتعصف به، فلا مجال لها في المناقشات العلميَّة.
وبناء على قوله ورأيه هذا في الإقواء فإنَّه يشير إلى أن الشُّعراء العرب الفصحاء يخطئون ويلحنون في كلامهم؛ لأنَّك إذا طرحت الإقواء لحَّنت الشُّعراء، أو أنَّ بروف: عبد الله يرى أنَّ العربيَّة كانت لا تراعي القواعد النَّحويَّة في نظمها ونثرها، فإن كان ذلك كذلك، فهذه إحدى الإِحد! فما برهانه على قوله هذا وما سنده فيه، وإن كان معتمده على الأغاني والأصبهانيِّ فهو ما قال ما قال، بل نصَّ على وجود الإقواء وما ذكر أنَّه من اختراع النَّحويِّين، فكيف يترك بروف: عبد الله الحقيقة ويلوذ بالوهم؟! وفي قوله:» وما هو بإقواءٍ إلاَّ بعد أن حكِّمت فيه قواعد النَّحويِّين، فصار الرَّويُّ يرفع وينصب ويجرُّ حسب القواعد المفروضة»= يعني قوله هذا إن لم يكن إقواء فهو لحن، فهذا طعن في عربية الشُّعراء مع الطَّعن بالنَّحويَّين، وأمَّا إسقاطه القصص المرويَّة عن النَّابغة في ذلك فإسقاطٌ بلا دليل بيِّنٍ لا حجَّةٍ واضحة، بل هو من التَّشهِّي. ولا أتكلَّم الآن أو أناقش صدقيَّتها عن النَّابغة من عدمه غير أنَّ توافر القصص بذلك توحي بوجود شيء من ذلك، وأمَّا إسقاطها وإسقاط الإقواء فهو طعن بأهل العروض، والطَّعن بهم يستلزم طعن بلغة الشُّعراء، وفوق الطَّعن بأمانة العلماء واتِّهام لهم بالتَّوارد والتَّواطؤ على التَّغيير والعبث بأشعار العرب وكلامهم، وهذا أمر جلل في حقِّهم وامتهان لقدرهم، وهو بعد قول ساقطٌ لا يأخذه لاقطٌ.
وذكر أنَّ الإقواء كانت موجوداً في أشعار الجاهليِّين والإسلاميَّين، وانتهى في عصر العباسيِّ. قلتُ: هذا أمر يسير، وذلك أنَّ العصر العباسيِّ عصر تقعيد العلوم وازدهار التَّدوين، وكثرة شعراء الحاضرة وتلاشي شعراء البادية والأعراب، فالشُّعراء يطَّلعون على قواعد العروض فيتجنَّبون ما فيها من عيوب الشِّعر، وفوق ذلك أن الشَّعر لا يقبل عند الخلفاء حتَّى يجيزه علماء العربيَّة، كلُّ ذلك أدَّى على انحسار العيوب من الشِّعر وتلافيها، والأعراب كما يقول ابن جنِّي كانت تهجم بهم طباعهم فربما خالفوا ما طَّرد من ضوابط وقيود كانوا يراعونها، ولو كان الإقواء من صنع النَّحويِّين فلِمَ يتوقَّفُ في العصر العباسي؟ بل يستمرُّ في العصر العباسيِّ وما بعده.
أمَّا مصطلحات العلوم فهي مستحدثة لا شكَّ، لكن العرب كانت تتكلَّم وَفق قواعد وضوابط في النَّثر والنَّظم، وهي ما على وفاقها قعِّدت القواعد النَّحويَّة، وهذا القرآن من أوثق النُّصوص العربيَّة المتواترة بالسَّماع من قبل عصر التَّدوين خلفٌ عن سلفٍ.
ثانياً: في كلامه أوهامٌ لا أحب الإطالة في التَّعقيب عليها لكن اكتفي بالإشارة إليها، من ذلك قوله: «ولو طرح السُّؤال هنا: أكان الشَّاعر يخطئ في النَّغم أم في النَّحو؟ لبدت الإجابة أنَّ الخطأ في النَّغم صعب التَّصوُّر ...»= هنا إشكال فالنَّغم هو الوزن الشِّعريُّ، فالبحر يكون فيه تموجات النَّغم، ولا علاقة للنَّغم برفع الكلمة أو نصبها أو جرِّها، وإنَّما ذلك يعود إلى الإيقاع الَّذي يكون في القافية وتفعيلتها ونوعها.
- وقوله: «بأيِّ لغةٍ صاغ شعره» ومن قبل قال: «ومن ميزات الشِّعر العربيِّ بقانون عروضه» فجعل ذلك للشِّعر العربيِّ، وهنا جعله لكلِّ لغةٍ فهذا اضطراب تصوِّرٍ!
- وقوله: «لقد كانت الظَّاهرة ملحوظة لدى الشُّعراء»؛ أي: ظاهرة هذه؟ إن كانت الإقواء فقد ردَّها وأبطلها، وإن كانت غيرها فما هيه؟ وإلاَّ وقع في الاضطراب من جديدٍ في نفي الشَّيء وإثباته، ويكون ناقضاً ما فتل.
- وقوله: «فالرَّاجح أن الشَّاعر لم يكن يقوي ... برغم القواعد السِّيبويهيَّة»= هذا يعني أنَّه إن لم يقوِ أنَّه يلحن، وأمَّا بالرَّغم أو على الرَّغم فهذا كلام غير علميٍّ إن كان يعدُّ طرحه علميًّا ومقاله غير انطباعيٍّ لا هبهبة ولا هفهفة.
7 - قال بروف: عبد الله: «والشَّاهد أنَّ العربيَّة بعد التَّقعيد قد ألزمت بما كان العرب لا يلتزمون به قبل التَّقعيد دائماً»، ثُمَّ خمع البروف في كلامٍ في أصول النَّحو لم يحسن درجة فما اعتلى سرجه، فجعجع بما لم يحسن ليكون له به ظنًّا منه حسنَ اختتام فما كان، غير أنَّه هنع قوله به فكان هنعةَ اختتامٍ حقيقةً.
قلتُ معقَّباً: في قوله ههنا مستوقفات هي:
أولها: أنَّه يدَّعي أنَّ العربيَّة قد ألزمت بما لم تلتزمه العرب من الضَّوابط، وهذا كما سبق بيانه وذكره وَهَمٌ سرى بالبروف، لا دليل له عليه ولا حجَّه معه فيه، وفي قوله: «دائماً» تليين لقوله وإرهاق له وتضعيف.
ثانيها: جاءت أوهام في قوله: «وما بني من قواعد العربيَّة إلاَّ على الغالب من كلام العرب غير المطَّرد بإطلاقٍ» حيث قواعد العربيَّة بنيت على المطَّرد، والاطِّراد ليس حكماً بل هو صفٌ لمعيار المادَّة الَّتي يستنبط منها الحكم، وهو ما يسمَّى حاليًّا آليَّة الحكم.
- ليس عند أهل أصول النَّحو ولا من مصطلحاتهم (غير المطَّرد بإطلاق)، بل غير المطَّرد ليس وارداً عندهم حكماً ولا هو بمقابل للمطَّرد، فالوارد عند هم مصطلح (الاطِّراد)، وعموماً المطَّرد يقابله المنعكس وليس غير المطَّرد، على أنَّ المنعكس وغير المطَّرد ليس من مصطلحات القوم أعني أهل أصول النَّحو.
- ممَّا يؤخذ على قوله الخلط بين المصطلحات، والخلط أمارة على الجهالة بأصول النَّحو، إذ كيف جمع بين (الغالب وغير المطَّرد بإطلاقٍ)؟ ومن الغريب تقييده غير المطَّرد بالمجرور، فهل عند الأصوليِّين النَّحويِّين مطَّرد بإطلاق وغير مطَّردٍ بإطلاقٍ؟ والمعروف من أوصاف النَّحويِّين لكلام العرب أن يقال: هذا مطَّردٌ ويقابله الشَّاذُّ، والشَّاذُّ لا ينقاس لشذوذه.
ويحكم النَّحويُّون على القول أو التَّركيب بالغالب، والغالب عندهم يقابله النَّادر، والنَّادر في الغالب لا يُقاس عليه، ونادراً ما يقاس عليه فإذا قيس عليه حُكِم بضعفه، لعِماده واتِّكائه على النَّادر؛ لأنَّ القائس خالف الأخذ بالغالب فضعف قياسه لأخذه بالنَّادر، وتركه الغالب، وهذا يكون من الأخذ باللغة الضَّعيفة.
والمشتهر المزدهر في كلامهم استعمال الغالب والشَّاذ، يليه النَّادر، والنَّادر عندهم استعماله نادر؛ لأنَّه حُكمٌ به يستدفع به معرَّة التَّخطئة والتَّلحين ويسترفع به عن الوصف بالشُّذوذ؛ لأنَّ الشَّاذ لا يطَّرد فيه القياس كما أسلفتُ وهو ينقاس على ضعفٍ= وهذا من دقَّة القوم في ضبطهم، وقوَّة ملاحظتهم.
والمطَّرد يرد في تقرير الأصول وتنظيرها، والغالب يرد في التَّطبيق على الكلام وفي سوق الأحكام. ويرد عندهم الكثير وينازعه القليل، وكلاهما مقيس لكنَّ الكثير هو اللغة العالية، هذه هي مسالك الأحكام، ومساق المصطلحات الأصوليَّة، ومنازع القول فيها.
ثالثها: في قوله: «ولا يحتجُّ بقواعد النَّحويِّين عالمٌ على مَن سبقهم إلاَّ على سبيل الرُّجحان من استعمال العرب، وحسب الاستقراء المتاح إبَّان تدوين العربيَّة، ومَن فعل ذلك فقد تنطَّع جاهلاً، أو متجاهلاً حكاية نشأة النَّحو وليداً فشيخاً فمعلَّم صبيةٍ يضرب بعصاه بحر العربيَّة، وإن إلى سيناء التِّيه»= هذا كلام كالحلقة المفرغة، بل هو كتيه سيناء، لا يعلم أوَّله من آخره، ولا يُدرَى رأسه من ذيله، ولا مراد قائله به، فما هو إلاَّ همهمة وغمغمة لا تبين، وهو كلام يلوق لفظه وجرسه لقائله، ولكنَّه كما قال الأوَّل: كطحن القرون لا تجد فيه ما تختبزه، أمَّا حكاية نشأة النَّحو مع أبي الأسود الدُّؤليِّ فهي قصة اللحن في القرآن، ونقطه نقط الإعراب، وكلُّ جديدٍ يبدأ صغيراً مع دواعيه الَّتي تبدأ صغيرةً قليلةً، ثُمَّ ينمو شيئاً فشيئاً بحسب المعالجات والحاجة الدَّاعية له، فتتراكم الجهود حتَّى يتكامل العمل ويستوي الجهد، وينضج ويستقرُّ.
والنَّحو بدأ مع أبي الأسود الدُّؤليِّ، ثُمَّ مع تلامذته منهم عاصم ويحيى، ثُمَّ مع ابن أبي إسحق، وأبو عمرو بن العلاء، ثُمَّ الأخفش الأكبر، والخليل بن أحمد، ثُمَّ سيبويه، وبقي للنَّاس ما دوَّنه بيديه وما حرَّره ممَّا تلقَّاه من شيوخه وما سمعه من كلام الفصحاء، فكيف يكون وليداً فشيخاً فمعلِّم صبيةٍ؟ بل تعاقبت طبقات وأجيال في بنائه أنضجته استقراءً وضبطاً حسب ما يحتاج النَّاس على تصحيح أخطائهم، بدءًا من عهد الخليفة عليِّ بن أبي طالبٍ (ت 40هـ) إلى عهد الخليفة هارون الرَّشيد (ت 193هـ) وظهور كتاب سيبويه.
النَّحويُّون هم أساتذة للخلفاء ومؤدبو أبنائهم، وهم ندماء للخلفاء وللوزراء، وهم مصحِّحو للنَّاس كلامهم وشعرهم، وهم في بعض الأمصار والأقطار كالأندلس قضاة ووزراء، بل هم مجيزو الشُّعراء عند الخلفاء، وقد صنَّفوا الكتب للخلفاء، ورغب إليهم الخلفاء في تصنيف الكُتب لهم، إذا كان هذا حالهم فلا أدري ما خبيئة فاء البروف وتعليم الصَّبية في قوله: «فشيخاً فمعلِّم صبيةٍ»؟
وختاماً عوداً على بدءٍ أقول: كُتُب بروف: عبد الله وكذلك كتاباته أيكتبها وِفاق قواعد النَّحويِّين أم أراه يكتبها وَفق كلام العرب قبل تعقيد القواعد من النَّحويِّين؟
ولعلِّي أن اختتم مقالي هذا بلفتات نظرٍ مربَّعة لسعادة البروف: عبد الله ليسرَّح فيها النَّظر، فلعلَّه أن ينقدح في فكره ما عساه أن يفيد، وهي الآتي:
1 - أنَّّ أسوأ ما يفعله الشَّخص هو ردَّة الفعل الانفعاليَّة من أيِّ موقف حصل له أو هَزَّةٍ هزَّته، والسَّوأة السَّوأى تلك الاندفاعات الانفعاليَّة إن كانت في المعالجات الفكريَّة في البحث والطَّرح في مسائل علميَّة، خصوصاً إذا كانت من قبل غير متخصِّص.
2 - أنَّ بروف: عبد الله ذكر في هامش المقال (ديوان ابن الدُّمينة) الَّذي أخذ منه الأبيات ذات الإقواء، حيث ذكر في تعريفه للدِّيوان أنَّه نظر فيه الإمام ثعلب خاتمة الكوفيِّين والأديب محمَّد بن حبيب وهما جامعاه وصانعاه، وحقَّقه علاَّمة الشَّأم: أحمد راتب النَّفَّاخ، وكلُّ هؤلاء جهابذة لغة وفرسان شعرٍ وأدبٍ ولم يذكروا ما ذكره البروف وادَّعاه من عبث النَّحويِّين - والبروف لم يسمِّ هؤلاء النَّحويَّين بالنَّصِّ- من اختراعهم الإقواء وإدخالهموه في الشِّعر، أخفي على هؤلاء الجهابذة أمر هذا العبث في سالف الدَّهر وقرب العهد بأهل اللغة وبفصحاء العرب وأهل المشافهة، وانفتق على البروف خبره في ذيل الزَّمان وتباعد الأعصار؟
3 - ما ذكره في الهامش (3) من أنَّ قصَّة إقواء النَّابغة كانت لمقصد قَبَلِيٍّ لوجود حسَّان في يثرب، والقصَّة حدثت في يثرب، وقد كان قبلاً في أوَّل المقالة وفي متنها ينفي وقوعها ويؤمن بانتحالها، وهنا في الحاشية يثبتها ويعلِّل لها بالقَبَليَّة، ففي هذا اضطراب في التَّصور؛ لأنَّهما لا يجتمعان إثبات مع نفي؛ فإمَّا هو مستبعد لم يحدث، وإمَّا هو حدث لغرض قَبَليٍّ.
ومراده بالقَبَليَّة أنَّ النَّابغة عدنانيٌّ دخل بلدة أهلها من الأزد وشاعرهم حسَّان، فأرادوا إهباط شعره فأسمعوه عيباً في شعره، هو وقوعه في الإقواء.
وأمر آخر كيف عرف البروف: عبد الله أنَّ مجيء النَّابغة إلى يثرب أنَّه وقع بعد ميلاد حسَّان وبزوغه وبروز شعره، وإصباحه شاعر يثرب والأزد، ليكون مكافئاً للنَّابغة ونديداً له، ومن المعلوم ما قصَّة احتكامه إليه وعرض شعره عليه فهو بهذا أستاذ له وحاكم عليه، في قصَّته مع الأعشى والخنساء في عكاظ وقبَّة الأدم الَّتي تنصب للشُّعراء، فهذا دليل أنَّه لم يشتهر ويزدهر بعدُ ليكون نديداً للنَّابغة!= هذا الكلام على أنَّ قصَّة الإقواء كانت في زمن النَّابغة أمَّا إن كان بروف: عبد الله يراها منحولة في عصر التَّدوين فيحتاج الأمر منه إلى دليل وبرهان، ولا يُرمَى الكلام على عواهنه هكذا جزافاً، فمن هذا النَّاحل النَّحويِّ اليمانيِّ؟ ومن أيِّ طبقة نحوية يُنمَى؟
4- ليت البروف: عبد الله - وقد أُعطي هذه البصيرة في ذلك- يشرع في تدوين قواعد للعربيَّة الحقيقيَّة قبل تصرُّف النَّحويِّين فيها، ويسعى في ذلك ويجهد؛ ليخرج للنَّاس ما احتجن عنهم زهاء ثلاثة عشر قرناً، وليكوننَّ بذلك له سبق هدَّك به من سبقٍ تحمد له صنيعته أبد الدَّهر بل إلى قيام السَّاعة، فهو بذلك يخدم فوق لغة العرب دين الإسلام، وما أكثر الأجور الَّتي ستحويها صحائفه إن هو قام بذلك، فأوَّل مخدوم في ذلك كتاب الله وسنَّة رسول الله، فأنعم بهما مخدوماً، ونعم ما هو خادم لهما!
مسك الختام: قال الإمام العلاَّمة الطُّوفيُّ (ت 716هـ) في مختصر الرَّوضة: «ويعتبر في إجماع كلِّ فنٍّ قول أهله إذ غيرهم بالإضافة إليه عامَّة». (البلبل في أصول الفقه (الفوزان): 343)
بالمحبَّة والوفاء أودِّعكم معاشر القرَّاء.
** **
د. فهيد بن رباح الرَّباح - أكاديميٌّ في كليَّة اللغة العربية بجامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة.
fhrabah@gmail.com