هناك الكثيرُ من المبدعين الذين نختلفُ ما بيننا حولهم حدَّ الفُرقة، وهناك قلَّةٌ من المبدعين الذين يختلف الواحدُ منَّا حولهم ما بينه وبين نفسه حدَّ الانشطار، وربَّما حدَّ التشظِّي.. وعلى قمَّة هؤلاء القلَّة يأتي الناقد محمد العباس الذي يُشَظِّي قارئَهُ إلى مؤيِّدٍ ومخالفٍ في آنٍ واحدٍ.. محبٍّ ونافرٍ.. موالٍ ومتبرِّئ.. إنَّهُ يحيلُ قارئهُ إلى كتلةٍ من التناقضات العجيبة.
منذ أربعة عقود، وهو ينفخ في الصُّور (صور اللغة)، ويُوَشِّي المسافةَ إلى الأسماع بهيبةِ الكلمات؛ وكأنَّه أخذ من (إسرافيل) مشروعَهُ في البعث والنشور فأصبحت الثقافةُ بالنسبة له معادلاً فنِّيًّا للقيامة. لذلك، فقد أصبح الأستاذ محمد العباس على استعدادٍ مطلقٍ لأن يخسرَ العالمَ كلَّهُ من أجل أن يربح ثقافتَه وقيامته.
تتَّسمُ كتاباتُهُ بخطابين: خطاب العقل الذي يمثِّل الجلالة والقوَّة والجبروت والثورة التي تختبئُ في المعرفة؛ وخطاب القلب الذي يحمل الرقَّة والشاعرية والجمال القائم على علاقة الحبِّ مع الإنسان والكون واللغة والثقافة.
هو أحدُ أولئكَ الذين يضعوننا على ضفَّة الفاجعة ويُشرِّعون أمامَنا صدرَ الهاوية؛ مدمِّرٌ لكلِّ من لا يفهمُهُ؛ حادٌّ مثل عينيْ حارسٍ أمينٍ على ضريحِ أحد الأولياء؛ تَمَرَّدَتْ فيه روحُ النقد؛ اسْتَفْحَلَتْ؛ تَغَوَّلَتْ... حتى أصبح يرى الأشياءَ من حوله نقصاً شبهَ كامل، فراح يطارد العيوب إلى حدود المقابر.
من خلال اطِّلاعي على غالبيَّة تجربته النقدية، أستطيع أن أختصر فكرته عن النقد إلى ما قالهُ المفكر العربي (محمد عابد الجابري) من خلال نقده المعروف للعقل العربي (نحن لا نمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرر مما هو ميِّت ومتخشِّب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي، والهدف هو فسح المجال للحياة كي تستأنف فينا دورتها وتعيد فينا زرعها). إنَّ أهمَّ ما يميِّز عملية النقد لديه هو وعيه العميق بأدواته النقدية دون الانزلاق في ضبابية المصطلحات وفقاعات النظريات وعماء المفاهيم، وإنْ توهَّم بعض القُرَّاء ذلك. هو يذهب مباشرةً إلى النصوص الرؤيوية العميقة بكامل عدَّته التفكيكيَّة ولا يلتفت للمؤلف، فهو إن صحَّ التعبير (دريديّ) النزعة في منهجه النقدي (نسبة إلى الفيلسوف والناقد الأدبي جاك دريدا).. يذهب إلى تلك النصوص ويفتح مغاليقَ رؤاها عبر عمليَّتين هما التفكير والتأويل حتى ينتج من النصِّ نصًّا يضاهيه جمالاً وعمقًا، أو يتفوق عليه مستعينا في ذلك بلغته الباذخة ومعرفته الثريَّة وحسِّه النقدي الأصيل.
هذا الأسلوب العميق الذي يعتمده في الكتابة النقدية؛ إضافةً إلى الجرأة التي تتدفق من أعصابِ قلمه؛ والتنظيرات الرصينة التي يطرحها في جميع المجالات الأدبية والفنية والثقافية آخذةً بُعدًا متطرِّفًا في بعض الأحيان؛ والرغبة الموغلة في اختراق السائد الثقافي؛ والاستعداد الكامل لحمل الفأس وتحطيم أوثان الأجوبة الجاهزة لأسئلة الحياة؛ كلُّ هذه الأسباب جعلت منه مفصلاً من مفاصل النقد في ساحتنا الثقافية، وليس مجرد ناقد عابر.
الحداثة كانت هاجسه وقد بدأ معها من خلال أجمل تجليَّاتها وهو الشعر، فانطلق إلى دراسة التجربة الشعرية في السعودية، وزجَّ بكلِّ ما أُوتيَ من رأسمالٍ إبداعيّ في مراهنته على أحصنة القصيدة النثرية لأنه أحد خبراء السباقات الثقافية العالمية وأكثر معرفةً بسلالة الخيول الشعرية. بناءً عليه، جاء إصداره الأول (قصيدتنا النثرية.. قراءات لوعي اللحظة الشعرية) زاخرًا بدراسات جوهريَّة لمجموعة من دواوين النص النثري لشعراء سعوديين في فترة التسعينيَّات من القرن الماضي. ثمَّ عاد مرَّة أخرى ليكمل هذا المشروع ويصدر أهمَّ منجز نقدي في المشهد السعودي يتناول قصيدة النثر في كتابه (ضدَّ الذاكرة.. شعرية قصيدة النثر)، ثمَّ يُتبعه بدراسات عديدة تعالقَ من خلالها بتجارب عربية مهمَّة من شعراء النص الحديث، على رأسها تجربة (الشاعر اللبناني الكبير وديع سعادة) الذي ترك أثرًا بالغًا في معظم تجارب الشعر النثري في السعودية، وبذلك كرَّس الأستاذ العباس نفسه بوصفه أحد المبشِّرين الكبار بقصيدة النثر في الوطن العربي. أمَّا كتابه الذي يمثِّل وحده مشروعًا شعريًّا استثنائيًا وجديدًا على المكتبة العربية، ويمكن لي أن أزعم أنَّه الكتاب/البصمة في مسيرة الأستاذ محمد العباس، فهو (سادنات القمر) الصادر عام 2003م، حيث قام باستقراء التاريخ الشعري الأنثوي منذ فجر التاريخ حتى عصر ما بعد الحداثة، واختيار نماذج مشرقة من الشواعر عبر كلِّ تلك الحقب الزمنية، ودراسة نماذج من أشعارهنَّ، وتقديمها للقارئ العربي. ومن الشعر الذي يمثِّل (البدء والمنتصف والخاتمة) للعباس، انطلق إلى الرواية والقصة القصيرة والموسيقا والفن التشكيلي والنقد الاجتماعي، وكتبه العديدة مثل (حداثة مؤجلة) و(نهاية التاريخ الشفوي) و(وشعرية الحدث النثري) وغيرها، وصولاً إلى كتابه الشهير (تويتر مسرح القسوة) الذي نظر إلى (منصَّة تويتر) على أنها (أحد مكتسبات اللحظة الديموقراطية حيث تتيح لكلِّ شخص أن يمتلك صوته الخاص دون أن يكون هناك هامش أو نخبة، ولكنها تحوَّلت إلى حلبة وعرة للصراعات، وتحوَّل المثقف التنويري فيها إلى أداة عمياء لتأزيم الوجود الإنساني).
إنَّ مقاربة تجربة نقدية هائلة مثل تجربة الناقد محمد العباس في حاجة إلى أطروحات جامعية لما تحمله من روح الاختلاف، وخطاب التعدُّد، والتمرُّد على الطرح السائد والراهن، ومجادلة اللحظة الثقافية دون مواربة، الأمر الذي جعله مصدر ائتلاف واختلاف في ساحتنا الثقافية. ولكن لا يمكن لي أن أكتفي بالحديث عن تجربته الإبداعية وأترك العلاقة الإنسانية التي تربطني به منذ (ربع قرن) من الأُلفة والروح الحميمة. إنَّ القارئ للصديق العباس قد يحكم على طبيعته النفسية من صرامته النقدية، ولكنَّني لامستُ ذاته عن قُرب كما لامستُ كتاباته، فلامستُ شجرةَ اللوز التي لا تتفتَّح أزهارُها في فصل الربيع من العلاقة فقط، وإنما في كلِّ فصول العمر لتحافظ على تناغم ألوانها التي توحي بالنقاء وتكشف عن طفلٍ يُزهِرُ ولا يكبرُ داخل روح الأستاذ محمد العباس. الصداقة جزء من مقدَّساته، والحبُّ هو زمزم الصفاء الذي يفور من حُفَرِ الأيام العميقة في نفسه؛ أمَّا هُو فالإنسان في أروع تجلياته. وأتذكر أنَّني خاطبته قبل عشرين عامًا في إحدى قصائدي:
تخمَّرتَ أكثرَ مِمَّا تُطيق الرؤوسْ
وقلتَ: اشربوني على اسمِ الحقيقةِ
فاختلفتْ في هواكَ الكؤوسْ
ألَا أَفتِنِي يا (ابنَ عبَّاسَ)
أَفتِني:
هلْ ترى الشعرَ بوصلةً في الحياةِ تُشير إلى الله؟!
أمْ أنَّهُ مِثلُنا شجرٌ واقفٌ في مهبِّ الفؤوسْ؟!
** **
- جاسم الصحيح