لما يئس العربي من الوصول إلى إجابات لأسئلته الكبرى انحصر تفكيره في عمره أي الفترة منذ ولادته حتى وفاته، فإذا عبر أحدهم بقصر الدهر فهو يعني قصر العمر ولعل هذا ما عناه أبو ذؤيب الهذلي بقوله:
هل الدهر إلا ليلة ونهارها
وإلا طلوع الشمس ثم غيارها؟
كل الشعراء اشتكوا من سرعة مرور العمر حتى الذين عمروا طويلا، كربيعة بن مقروم الذي يشبه الشباب بلباس ارتداه ثم خلعه:
ولقد أصبت من المعيشة لينها
وأصابني منه الزمان بكلكل
فإذا وذاك كأنه ما لم يكن
إلا تذكره لمن لم يجهل
ولقد أتـت مائة علي أعدها
حولا فحولا لو بلاها مبتلِ
فإذا الشباب كمبذل أنضيته
والدهر يبلي كل جِدَّة مبذل
[المِبْذَل: البِذْلة، أَيْ مَا يُسْتَعْمَلُ مِنَ الثِّيَابِ كُلَّ يَوْمٍ]
والنابغة الجعدي الذي عمر إلى ما شاء الله له حتى أفنى ثلاث عمائم، يقصد بها تغير لون رأسه من الأسود إلى المشوب ببياض إلى الأبيض الناصع، يرى أن شبابه مر كأن لم يكن، ويأسف على انقضائه:
شيـخ كبيـر قد تخدد لحمـه
أفنـى ثلاث عمائـم ألوانـا
سوداءَ داجيةً وسحقَ مُفوَّفٍ
ودروس مخلقة تلوح هِجانا
ثـم المنيـة بعـد ذلك كله
وكأنمـا يعنـى بذاك سوانا
ويرى أبو الحسن التهامي العمر رحلة، وما دام الأمر كذلك فعلى المرء أن يستعجل في إنهاء حاجاته:
فاقضوا مآربكم عجالا إنما
أعماركم سفر من الأسفار
ويشبه فتيان الشاغوري العمر في قصره بفرض الصلاة وكأن المشيب قد أوصله إلى الجلوس للتشهد الأخير وقد حان التسليم:
قد حان تسليم من أدى الصلاة وقد
مضت من السجدة الأخرى التحيات
أما حسين سرحان فلا يرى العمر سوى ثوان:
وما جدول الأعوام لو شئت ضمه
إلى بعضه في العمر إلا ثوانيا
حتى الستون عاما التي عاشها - أو ماتها على حد تعبيره - ما هي إلا طيف عابر:
ستون عاما متُّها.. ما عشتها
أودعتـها قبـرا وألحدتها
ما عشتها إلا كما عاشها
طيف سرى في ليلة نمتها
ويرى الشاعر المغربي عبدالقادر المقدم أن النهار صورة مصغرة من العمر، ففيه مولد النهار وموته، وبينهما فجر ضاحك، وزوال هو موطن قوة النهار، وأصيل مؤذن بالغروب فيقول:
تساءلت في معنى النهار ولم أزل
أرى فيه آفاقا تلوح وتغبر
له شبه بالعمر ما بين مولد
وموت وفيه الحي كالطيف يعبر
ويقول في مقطع آخر:
ففجرك يتلوه الضحى لزواله
فيبدو به عبر الأصيل غروب
وعمرك حلم لا تكاد تحســه
وكم هو في بحر السراب يذوب
ويشبه الشاعر جاسم الصحيح العمر بالمبنى متعدد الطوابق فهو وإن ارتفع محدود الارتفاع، فيقول من الطابق الخمسين:
صعدت الطابق الخمسين مني
كما صعدت معارجها الصلاة
طوابــق مــا بهــا إلا ذواتــي
مبعثــرة .. وأســمائي شــتات
فما مــن طــابق إلا ليَ اســم
بــه.. وحقيقــة عنــي وذات
فلما وصل للطابق الخمسين إذا دمه فائر وأنفاسه لاهثة:
صـعدت الطابق الخمسين مني
دمـي عـارٍ وأنفاسـي حفاة
طغى لـون الذبـول على الزوايا
وجفت من ملامحها الجهـات
ضحايا الوقت حولي ليس تحصى
وهل تُحصِي ضحاياها الطغاة
ولما رأى - لسان الدين بن الخطيب - لَعِبَ ولدِه ومرَحَه، اتَّهم الدهرَ بسرقة شبابه، فأخذ الحزنُ مِن فؤاده مأخذَه، لكنه عزى نفسه بأنَّ الدهرَ لم يبعه إلا لأعزِّ أحبابه، فيقول:
سَرَق الدَّهْرُ شَبَابي مِنْ يَديِ
وفُؤَادي مُشْـعِرٌ بالكَمَدِ
جملـة الأَمْـرِ إذا أبْصَرْتُهُ
بَاعَ مَا أَفْقَدني مِنْ وَلَدِي
ورزق أبو الحسن التهامي ابنا بعد أن شاخ فعلم أن الزمان يريد مقايضة شبابه بهذا الابن، ورضي بذلك، لكن القدر عاد واسترد ما قايضه به، فقال في ذلك راثيا ابنه:
ولما أتـى بعد المشـيب عدلته
بعصر الشباب الغض بُورك من عصر
وقلت شباب ابني شبابي وإنما
تنقل معنى الشطر مني إلى شطري
فولى كما ولى الشباب كلاهما
حميدا فقيدا.. طيب العهد والنشر
... ... ...
(المقال القادم: شعراء اشتكوا من طول العمر)
** **
- سعد عبدالله الغريبي