شوقية بنت محمد الأنصاري
منذ أيام شاهدت صورة متداولة بين المجموعات التواصلية لمقولات مشاهير الفلسفة ونظرتهم العميقة للحياة، وجاءت متفاوتة بينهم: سقراط (إنها الابتلاء)، أرسطو (إنها العقل)، نيتشه ( إنها القوة)، فرويد (إنها الموت)، بيكاسو (إنها الفن)، غاندي (إنها الحب)، راسِل (إنها المنافسة)، إنشتاين (إنها المعرفة)، ثار جدل الجمهور حولهم في أي فلسفة كان تصوير الحياة أدق وأشمل، ومن هنا انطلقت بفكرة مقالي، لحكاية الجدل في حياة البشرية (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها)، فهذه المقولات الفلسفية دوّنها الإنسان ومازال في صراعات جدلية معها وضدها. لقد فرضت لغة التغيير صوتها على كثير من منهجيات حياتنا اليومية والعلمية والاجتماعية والنفسية، لتخلق جملة من الجدال والقرارات النقدية، وفلسفات واقعية وغير واقعية، كشفت جوهر العلاقات، وتذبذب الحوارات، وازدادت فيها حدة لغة الصراعات، مسرحية بأحداثها الدرامية المتكررة، لنرى البطل في بعض فصولها يطغى بفلسفته الذاتية غير المحبوكة بمعرفة أو خبرة؛ ليزداد غرورًا بفكره الفارغ وكأنه فريد عصره، ومتى ما حقّق ماهية التغيير تحوّل لصورة البطل الواثق بإبداعه فيكتشف سرّ التناقض في فلسفته الذاتية، ويبحث عن لغة جبرية جدلية تحاكي العالم من حوله، فتفجّر المحاكاة المتجددة فيه ينبوع الإنتاجية لتخدم حاجات عصره.
هذه الفلسفة التي رسمت ملامحها استوقفتني فيها الآراء المعرفية المتداولة في الندوات الثقافية والنقدية والصالونات الأدبية التي لازالت تعجّ بصوت النقد البدائي المعروف الذي ينتهي صداه دون أي تغيير إيجابي يحمل لغة تحولية للنقد الأدبي، واليوم من خلال الدراسات الأكاديمية في الأدب المسرحي؛ يفوز النموذج النقدي للفكر الأرسطي الذي ظل ثابتاً رغم العصور والأزمان، محققا لغة التغيير المتوازنة المحافظة، فقد رسم أرسطو خطة المحاكاة المحبوكة وجوهرها في صدق التوجيه النقدي نحو لغة تغيير إنسانية مبدعة.
ولعل صورة الجدل كانت حاضرة بقوة في ساحة النقد المسرحي الغربي، فتلك المسيرة التاريخية التي نقلت فن المسرح الغربي لنهضة أدبية عبر العصور الحضارية، استخدمت لغة المحاكاة للتغيير ونجحت من عصر النهضة حتى العصر الحديث أن تشعل شعاع توهجها الفني، راسمة بالتنافسية أقوى لغات الإبداع المسرحي، ومن أكثر المراجع التي استوقفتني كتاب نظريات المسرح لـ (مارفن كارلسون)، يجد فيه الباحث المبتدئ أساسيات نقد المسرح وكيف تطورت من نظرة سطحية إلى نظريات علمية محبوكة. نجح المؤلف في عرض نظريات المسرح منذ العصور الاغريقية حتى تاريخ طباعة الكتاب2010م، بطريقة تسلسلية مميزة، وعرض جهود علماء النقد ورحلتهم التطويرية في سبيل تقديم تغذية نقدية ترتقي بالعمل المسرحي، وكيف كانت بداياته وكيف أصبح لغة تنافسية بالحضارة الغربية؟ وكل باحث مهتم سوف يقف على فصول هذا الكتاب وصراعات الأمم الجدلية لتحقق التنافسية؛ ولتصنع من مسرحها حدثا أسطوريا بالمحاكاة والتحسين ووضع المنهجيات العلمية والنظرية النقدية لتحظى بالريادة.
نبّه مارفن إلى أن لغة الجدل منذ العصر الإغريقي إلى عصرنا الحديث قائمة على الأخلاق واحترامها في كل الفنون والأعمال الأدبية الشعرية والسردية، وبالمحاكاة نجحت واستمرت، يقول أرسطو (وظيفة الشاعر أو الفنان بوجه عام هي أن لا يحاكي أحداثا تاريخية معينة أو شخصيات بنفسها، فالشعر خلق باعتباره محاكاة للانطباعات الذهنية، ومن ثم فهو ليس نسخا مباشرا للحياة وإنما تمثّل لها)، وهذا ابن رشد يرى: (أن المحاكاة في الشعر تكون من قبل الوزن واللحن والكلام)، أما أفلاطون فيرى (أن الفن يروي ويغذي العواطف بدلاً من أن يحد منها)، فنظرية أرسطو للمحاكاة متفردة، أوجدت لها وظيفة إيجابية تساوي الفن، ويرى أن الواقع هو الأصل والمحاكاة تتشكّل في تفاصيله، بحيث يمكننا أن نحاكي الواقع بما يمكن أن يكون. هذه المنهجية الصادقة أنجح نظرية بدأت واستمرت لعصرنا، ووضعت بصمتها وبصمة مبتكرها كنقطة حاسمة في عالم النقد والأدب (المحاكاة) يقول أرسطو: «فالمحاكاة فطرية يرثها الإنسان منذ طفولته ويفترق الإنسان عن سائر الأحياء في أنه أكثرها استعداداً للمحاكاة».
ورأيي كباحثة تؤمن بقوة تخصيص وحدة للعمل الأدبي والبحثي والأكاديمي بلغة تعاونية محبوكة الفصول الدرامية للبحث المسرحي على الأخص والنقدي والأدبي ، وبإشراف مباشر من الجهات الأكاديمية الحكومية والخاصة كمجامع اللغة العربية ومعاهد الفنون الأدبية، وبتوظيف خبرة النقاد العرب لوضع خطة تشاركية محبوكة في منهجيتها، وصياغة أطر ونظريات نقدية تجاري وتحاكي نظريات الغرب وتخلق فرص الإبداع الكامن في علوم اللغة العربية وموروثها الشعبي الأصيل الذي تعمّق فيه الغرب كما ذكر (مارفن) ليكون انطلاقا للتجديد في أعمالهم الأدبية، وشاهدنا تعمق المستشرقون بالدراسات والتحليل والنقد لأساسيات فنوننا الشعرية والنثرية.
إنني أرى اليوم بساحتنا الثقافية صوت الشباب المنافس بلغة الإبداع يتحدث: بصوت الكاتب المسرحي والممثل الدرامي والمخرج الفني والفرقة الموسيقية والناقد الأدبي، بحماسها وفخرها قادرة على أن تعيد المجد للمسرح العربي ولساحة النقد العربي، وتزداد بانفتاحهم المعرفي المباحث والدراسات والترجمات، ونقود المستقبل بنهضة واندفاعية للتطوير والتحسين والابتكار، لا بصراعات بين المأساة والملهاة، بل بلغة التعاون والتشارك في العلم والقيم، ومحوِ لغة الدماثة والهزل، لترحل أجيال وتحل أجيال ويتداولون بصمة الصوت العربي في فكر البشرية وتسطّرها المؤلفات الأدبية والنقدية والمسرحية بفلسفة الانسان الحاضر في كل زمان ومكان.