د. محمد بن صقر
تكثر النظريات والأطروحات العلمية والدارسات التي تحاول أن تبني مناظير جديدة حول بناء مفهوم جديد لرسالة والمضمون والمحتوى الإعلامي، وإن كنت أرى أن جميع ما يطرح من نظريات أو أفكار أو أيدولوجيات يحاول تسويقها وترويجها كمنتج يكون الهدف منها هو اقناع الجمهور ومحاولة تغيير سلوكه واتجاهاته، ولعل المتابع للانتخابات الأمريكية بين الرئيس ترامب وبايدن والتغطيات الإعلامية المصاحبة لهذا المرثون الرئاسي يجد أن الوسائل والأدوات الإعلامية المستخدمة تختلف من حيث الأسلوب ولكن تتفق من حيث الهدف والمتمثل في كيفية استمالة الجمهور نحو دعم المرشح وانتخابه ليصبح الرئيس القادم للولايات المتحدة الأمريكية، وبما أن السباق قد حسم وأرسى ركابة بفوز بايدن إلا أن ما يهمنا وما نريد أن نستنتجه يتعلق بأن لدى الجماهير آراء ممكن أن تتغير وممكن أن تتفاعل مع حدث معين وممكن أن لا تتفاعل مع نفس الحدث، وهذا يعود إلى مضمون الرسالة الإعلامية وطريقة تقديمها لعقلية الجماهير، وبذلك يتم طرح التساؤل كيف يتم ذلك؟ هذا الأمر يقودنا إلى مفهوم جديد برز للساحة عام 2016م أطلق عليه «ما بعد الحقيقة»، وهو يشير إلى ازدياد ميل الناس إلى تشكيل آرائهم وقناعاتهم وتصديقهم؛ بناء على المشاعر وعواطفهم، أكثر منها على الحقائق والوقائع الحقيقية، التي ترتبط عادة بالقضايا السياسية والاقتصادية وحتى القضايا العامة؛ فيزداد رفض الناس لتقبّل الحقائق ولو كانت مدعمة بالدلائل، وقبول حتى الكذب والرأي المخالف باعتباره أحرى أن يصدق لأنه يلامس شعورهم الضني وشكوكهم وقناعتهم التي ترسبت لديهم وهو ما جُبل عليه غالبية الشعوب؛ وفي هذا السياق نستشهد بمقولة المستشارة الألمانية، إنجيلا ميركل، حيث قالت: إن الناس لم تعد مهتمة بالحقائق، إنها تفضل الاحتكام إلى مشاعرها الفردية. ولكن هذه المشاعر الفردية لا يمكن أن تكون ما لم يكن هناك مغذٍ لها من وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي التي تعمل على هذا الجانب الاساسي في تغذية الرأي وتغيير سلوكه واتجاهاته، فقد بينت دراسات كثيرة عملت على هذا المفهوم وخلصت، غالبيتها على أن سياسة ومفهوم ما بعد الحقيقة، ظاهرة تردنا بشكل متسارع من كافة الوسائل؛ التي تقوم بحقن العقول بالمحتوى الإعلامي والرسالة والصوت الواحد المراد سماعة ولذلك تجد كثيراً من الحملات الإعلامية تبني رسالة معينة ليكررها الجماهير وتجعلهم يعملون من أجلها ويكون هذاالعمل له طريقة وأساليب مصيرها تحقيق الهدف لصانع هذه الرسالة هذا النهج دعاء كثير من السياسيين وبعض وسائل الإعلام لإعادة صياغة المعلومات وصناعة القصص العفوية لتضليل الرأي العام عن الحقيقة وتحقيق أهدافهم، ومن أمثلة ذلك معسكر البريكسيت Brexit في المملكة المتحدة، وأيضا قضية معدلات جرائم القتل في الولايات المتحدة حيث أجرت جريدة الإيكونيميست الأميركية بحثًا حول ظاهرة مابعد الحقيقة حول هذه الظاهرة، فوجدت أن معدل جرائم القتل، وفق الإحصاءات الرسمية، في انخفاض مستمر في الولايات المتحدة، بينما أصر ترامب على أن معدل الجرائم وصل إلى مستوى قياسي، ووفق استطلاع أجراه معهد غالوب، وجد أن من يصدقون ترامب مصرون على أن معدل جرائم القتل وصل إلى مستوى قياسي. كذلك فقد ألف إريك أوليفر Eric Oliver ، كتابًا حول الظاهرة نفسها بعنوان «أميركا المسحورة: الصراع بين العقل والحدس في السياسة الأميركية»، وقد رصد من خلاله زيادة تأثير ما سماه «التفكير السحري magical thinking» على التيار الشعبي اليميني الأميركي. كما بين الكاتب الأمريكي رالف كييس في كتابة ما وراء الحقيقة: التضليل والخداع في الحياة المعاصرة، وبين أننا نعيش عصر الأكاذيب النبيلة التي يمكن تعديلها وتطويعها وتنقيحها لتتوافق مع الزمن المعاصر، زمن قتل الحقيقة في عصر ما بعد الحقيقة واعتماد التضليل والخداع، أن ظاهرة ما بعد الحقيقة تظهر دائماً في ظل الازمات والاحداث التي تلامس المجتمع ومستقبلهم وتبنى على اندفاع الجماهير نحو معرفة المستقبل ومصير أحداثه لتستغل الاندفاع غير المنضبط وتطلق التحليلات والاكاذيب والرسائل وكثير من تلك الاكاذيب أصبحت تروج كتغريدات (Tweets) لأنه النمط الأمثل والاسرع لتداول المعلومات، والتأثير في توجهات الجمهور ووجهات نظره وقد تكون هذه التغريدات تحت اسم مستعار أو غير معلوم ولكن لتعطش الناس للمعلومات لم تفكر بمصداقيتها أو مصدرها لاتبث سمومها وأكاذيبها التي تكون قريبه من شعور وعواطف الجماهير.