د. يوسف سليمان الجباري
كما هو معروف فإن جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2020م نالها الأمريكيان روبرت ويلسون وبول مليغروم مناصفة لابتكارهما صيغاً جديدة للمزادات، مفهوم النظرية لا يعنيني حقيقة ولست من أهل الاختصاص في ذلك، والأغلبية شاهدوا مقطع الفيديو الذي انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، حينما ذهب روبرت ويلسون برفقة زوجته يخبران بول مليغروم حصولهما على جائزة نوبل، وذلك عندما تلقيا اتصالاً من منظمي الجائزة بعد منتصف الليل يخبرهما بذلك، ما يهمنا هو أن روبرت ويلسون هو المشرف المباشر على رسالة الدكتوراه للطالب آنذاك عندما كان بول طالب دكتوراه، وما يهمني أن أبحاثهما التي تم نشرها عام 1994م أدت إلى تطبيق صيغ جديدة بالمزادات، مما عاد بفائدة كبيرة على المجتمع بعد ذلك من بائعين ومشترين ودافعي ضرائب في العالم أجمع، وهو ما أهلهما للحصول على جائزة نوبل لعام 2020م (بعد 16 عاماً).
ما نستلهمه من ذلك هو أن الأبحاث الأصيلة (Original Research) المنشورة، وكذلك الأبحاث المستلة من رسائل الماجستير والدكتوراه دائماً تكون ذات قيمة علمية عالية، وغالباً تمثل الأبحاث الأصيلة ما يقارب 80 في المئة من الأبحاث في عدد واحد منشور لأي مجلة علمية، بعض المجلات العلمية المرموقة يكون كامل العدد أبحاث أصيلة، ومفهوم البحث الأصيل أنه البحث الذي لم يسبق عمله من قبل وأضاف فائدة علمية ذات قيمة عالية، وبالتالي أدت نتائجه إلى الوصول إلى شيء مفيد، ومنها كذلك أنه أي بحث يقدم نتائج جديدة وغير مسبوقة، أو البحث الذي أوجد حلولاً لمشكلات مطروحة بأبحاث علمية أصيلة سابقة، وهذا ما قام به عالما الاقتصاد، حيث قاما بالتعديل على نظرية المزادات وابتكرا صيغاً جديدة للمزادات.
وما أود أن ألفت إليه بعد سرد ما سبق هو أولاً أهمية نشر الأبحاث الأصيلة، وكذلك الأبحاث المستلة من رسائل الماجستير والدكتوراه، وعدم الاكتفاء باجتياز المناقشة والحصول على الشهادة العليا بتميز، حيث إن التميُّز يكمن في النشر العلمي، والتميُّز أكثر يكمن في تميُّز المجلة العلمية المنشور فيها البحث الأصيل، فكلما كانت المجلة العلمية ذات معايير علمية عالية دل ذلك على أن البحث المنشور والمستل من الرسالة ذا فائدة علمية وتميزاً عالياً، والعكس صحيح.
فائدة النشر العلمي المتميِّز (وهو غالباً كذلك للأبحاث العلمية المستلة من رسائل الماجستير والدكتوراه)، أنها تؤدي إلى تراكمات علمية ومعرفية جديدة تساعد عالمياً في مواصلة البحث والاكتشاف ونشر بحوث علمية أخرى جديدة مرتبطة أو مستفيدة مما تم نشره مسبقاً من أبحاث واكتشافات، حيث تصبح المجلات العلمية وما تحتويه من أبحاث علمية منشورة مرجعاً يستند عليه الباحث خلال إجراء بحوثه، بمعنى أنه ليس بالضرورة أن تكون الاكتشافات القيمة متعلقة بأبحاث صرح علمي واحد أو بلد واحد أو بتعاون مجموعة من الباحثين فيما بينهم في آن واحد، وخير مثال على ذلك وما يمكن استلهامه من جائزة نوبل هو الثلاثة الذين حصلوا على جائزة نوبل في الطب لهذا العام (2020م) وهم: البريطاني مايكل هوتن والأمريكيان هارفي ألتر وتشارلز رايس، وذلك لتمكنهم من اكتشاف الوباء الكبدي C، هارفي ألتر نشر أبحاثاً نهاية سبعينيات القرن العشرين، مبيناً أن هناك التهاب كبد ناتجاً عن نقل الدم للمرضى، وأن هذا الالتهاب غير مرتبط بالتهاب الوباء الكبدي A أو B، وبعد عقد من الزمن وبالتحديد عام 1989م قام مايكل هوتن باكتشاف التسلسل الجيني لفيروس الوباء الكبدي C، ويلاحظ هنا لولا ما تم نشره مسبقاً من قبل هارفي ألتر والتراكم المعرفي في المجلات العلمية لما تم اكتشاف التسلسل الجيني ربما، يأتي بعد ذلك ثالثهم تشارلز رايس مستنداً على أبحاث من سبقوه استطاع - في العقد الثاني من القرن الحالي - وبعد جهود متواصلة تمكن من اكتشاف العلاج المسمى (سوفوسيوفبر) مما يعتبر علاجاً ثورياً لهذا الوباء. من هنا يتضح أن ثمرة البحوث العلمية والرسائل الجامعية هو النشر في المجلات العلمية والتي لها دور كبير في الإثراء المعرفي، وأنه يجب أن يُعلم أنه إذا لم يتم نشر الأبحاث العلمية فإنها تصبح عديمة الفائدة، فأي بحث علمي غير منشور وبغض النظر عن نتائجه العلمية يعتبر جهداً مهدراً، ومن المفترض اعتبار أي بحث علمي مهما كانت نتائجه ومهما كلف من مال ووقت وجهد إذا لم ينشر، أن يعتبر نوعاً من (العبث) حقيقة، كذلك رسائل الماجستير والدكتوراه يجب أن تنتهي بالنشر العلمي في المجلات العلمية المرموقة وألا تنتهي فقط بحصول صاحبها على الشهادة العلمية، وغير ذلك سوف يجعل النتائج القيمة والاستنتاجات العلمية التي تم التوصل إليها تذهب أدراج الرياح.
ولأني أكاديمي وأنتمي إلى جامعة أكاديمية عريقة، أعلم - وللأسف - أن كثيراً من الرسائل الجامعية لطلاب الدراسات العليا لا يتم نشرها، باعتقادي هناك العديد من الأسباب التي تؤدي لذلك ومن أهمها المشرف المباشر على الرسالة، حيث يجب على المشرف أولاً توجيه الطالب لاختيار موضوع الأطروحة بحيث يكون موضوعاً عصرياً ومهماً وذا جاذبية للتوجه العالمي Trendy Research Topic وهذا بدوره سوف يساعد ويسهل النشر في المجلات العلمية العالمية المرموقة لاحقاً، فمثلاً هناك فرق كبير بين مشرف - على سبيل المثال - يختار موضوع (مقارنة الطاقة الناتجة عن احتراق الفحم بالطاقة الناتجة عن اختراق الديزل للمحركات)، وآخر يختار (الهيدروجين كمصدر للطاقة النظيفة لمحركات الشاحنات الكبيرة). لذلك وبالقرن الحادي والعشرين وأهمية الحفاظ على البيئة، لن يجد الأول من يهتم بنتائج بحثه والثاني الكل سوف يتسابق ويرحب بنشر بحثه.
ثانياً : يجب على المشرف غرس مفهوم أهمية التراكم المعرفي في المجلات العلمية الناتج من نشر الأبحاث العلمية لدى طلابه من السنة الأول للدراسة، وأن ذلك سوف يعود بالنفع على البشرية جمعاء حتى يتم اكتشافات علمية نافعة مستقبلاً عند نشرها بحيث تؤدي إلى ما يسمى (التراكم المعرفي المنشور)، وهذا بالفعل ما أدى (بعد الله) إلى اكتشاف الوباء الكبدي C وطرق علاجه كما ذكرنا سابقاً.
ثالثاً : يجب أن يفهم الطالب أن نشر بحثه العلمي في المجلات العلمية المرموقة يعد إبرازا مهماً للجامعة والدولة التي ينتمي إليها، وأن ذلك فيه إظهار لما وصلت إليه جامعته ودولته من التقدم في المجال البحثي والعلمي والمعرفي، وكذلك النشر العلمي يعتبر نوعاً من رد الجميل لدولته التي - بعد الله - سهلت له السبل لطلب العلم، ووفرت له طرق المعرفة أينما كانت إلى أن وصل إلى أعلى المراتب العلمية وكل ذلك ربما بدون تكلفة مادية تذكر، وهذا ما حصل لي وللكثير من زملائي الأكاديميين في هذه الدولة المباركة أعزها الله.
وأخيراً يجب أن يفهم الطالب أن بحثه الأصيل المستل من أطروحته العلمية وعند نشره في مجلة علمية مرموقة ليس شرطاً أن يحدث صدىً عالمياً ويكون حديث العالم في حينه مثل وباء كورونا أو الانتخابات الأمريكية، ولكن من المحتمل مستقبلاً أن يأتيه اتصال هاتفي من منظمي جائزة نوبل في منتصف الليل يخبرونه أن بحثه المنشور قبل 25 سنة قد أهله للحصول على جائزة نوبل مثل ما حصل لعالمي الاقتصاد.
** **
- عضو هيئة تدريس - جامعة الملك سعود
yaljabbari@ksu.edu.sa
Twitter:@ysjabbary