الحمد لله المتفرد بالبقاء والدوام، المقدر للآجال، وكاتب الفناء على العباد.. والصلاة والسلام على محمد خير مبعوث في الأنام، وبعد :
فحينما يمسك الإنسان بالقلم ليكتب رثاءً عن قريب أو زميل أو صديق فإن اليد تهتز، والقلم يميل يمنة ويسرة غير مستقر على حال، حزناً على الفراق: فالإنسان يتذكر السنين الطوال الماضية، وما تخللها من مواقف وذكريات.
نعم هذه هي حالي وأنا أمسك القلم لأكتب عن عمة غالية علينا عز علينا فراقها، رحلت عن دنيانا الفانية هي العمدة الحقيقية لأسرة الزيد الطيَّار، نعم هي عمدة على الرجال والنساء منهم.
والعمة هي هيلة بنت زيد بن أحمد الطيَّار رحلت بعد معاناة طويلة من المرض في صباح يوم الأربعاء 24 من ربيع الآخر 1442هـ.
فهل علمتم بما ألقاه من ألمٍ
وما بقلبي من الأشواقِ يشتعلُ
اللهم ارحم روحها الطاهرة، واجعلها في الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، اللهم اجعلها من عبادك المستبشرين بشفاعة نبيك، والشاربين من حوضه الشريف.
نسأل الله أن يتغمدها بواسع رحمته، وأن يجازيها بالحسنات إحساناً وبالسيئات عفواً وغفراناً هي ووالدينا وجميع موتى المسلمين الأحياء منهم والميتين الذين آمنوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً رسولاً وماتوا على ذلك.
الموت سنة الله في خلقه أجمعين يستوي في ذلك الحاكم والمحكوم والغني والفقير والصغير والكبير. يقول الله تعالى في محكم التنزيل: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (8) سورة الجمعة.
لقد كانت العمة بمثابة الركن الركين في البيت، وهي والدة الجميع، يأنس الكل في مجلسها، وكل من في مجلسها يعتقد أنه هو الصاحب المأنوس به، وصاحب التقدير في المجلس، وأنه هو صاحب الحظوة عندها.
كانت ذات شخصية قوية، تقول الحق ولو على نفسها، فكل من جلس عندها يأخذ حذره، ويحاسب نفسه قبل أن يتكلم، فهي تقدر كل إنسان، تحترم الصغير قبل الكبير وتنصح المقصرين في أمورهم الدنيوية والدينية، صاحبة هيبة لا تجامل أحداً، رأيها رأي رجل حكيم في ثوب امرأة، وقولها نافذ على كل متساهل في دينه أو سلوكه لا تأخذها لومة لائم.
إن أم محمد كانت مصدر فأل حسن ينتشر في جنبات كل من يزورها «وياكثرهم»، وعندما يخرج الواحد من زيارتها يخرج وهو مشبع منها أُنساً وحباً وتقديراً واحتراماً.. نعم رحلت بعد أن زرعت فينا المحبة والذكرى الغالية الجميلة والسيرة العطرة.
واليوم ودائماً نقول: أيها الغالية أم محمد : إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك يا أم محمد لمحزونون.. ندعو الله لك بالمغفرة والرحمة، وأن يدخلك الفردوس الأعلى من الجنة، وأن يجعل ما أصابك كفارة لك وطهوراً.. اللهم تجاوز عنها واغسلها بالماء والثلج والبرد، ونقها من الخطايا والذنوب، وثبتها على القول الثابت.
فالحمد لله الذي له ما أعطى، وله ما أخذ، وكل شيء عنده بأجل مسمى، وكل شيء عنده بمقدار.. رحمك الله وجزاك عنا خير الجزاء.
فَلِكُلِّ عَين حَق مدرار الدِما
وَلكل قَلب لَوعَة وَثُبور
وَمَضى الَّذي أَهوى وَجرعني الأسى
وَغَدَت بِقَلبي جذوة وَسَعير
قَد كُنتُ لا أَرضى التَباعُد بُرهَة
كَيفَ التَصَبُّر وَالبِعادُ دُهور
أَبكيكَ حَتّى نَلتَقي في جنة
بِرِياض خُلد زينَتُها الحور
نعم نبكيك يا عمتي يا أم محمد، وقد كثر الباكون، فالقلوب تحزن، والعيون تدمع، ولا نقول بعد ذلك إلا ما يرضي الرب سبحانه وتعالى: (الَّذِينَ إذا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ). (156) - (157) سورة البقرة.
اللهم أجرنا في مصيبتنا وأخلف لنا خيراً منها.
فقد أخبر الله تعالى المؤمنين، أن الدنيا دار فتنة وبلاء ومحن، وأنه مبتليهم فيها، بمال أو ولد أو والد أو والدة أو قريب أو غير ذلك.
ولذلك أمرهم بالصبر، وبَشَّر الصابرين من عباده بالمغفرة التي صفح الله بها عن ذنوبهم، مع الرحمة المهداة لهم من الله تعالى، ورأفته بهم، ومع هذه المغفرة والرحمة، فهم المهتدون إلى طريق الحق، فالمؤمن إذا سلَّم الأمر إلى الله ورجع واسترجع عند وقوع المصيبة كتب الله له ثلاث خصال من الخير: المغفرة، والرحمة، وتحقيق سبيل الهدى.
وفي ذلك يقول المصطفى -عليه الصلاة والسلام-: (من استرجع عند المصيبة، جبر الله مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه) (الترغيب: 4 / 256). فالمغفرة والرحمة وسبيل الهدى، للذين صبروا واحتسبوا واسترجعوا كما يقول - عليه الصلاة والسلام-: (لا يصيب المرء المؤمن من نصب، ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله عنه بها خطاياه). (البخاري: 564).
إن من نعم الله تعالى وفضله على الإنسان أن رزقه الله نعمة النسيان، وإلا لما هنئت نفس بعيش، قال أحد السلف : (كل شيء يبدو صغيراً ثم يكبر إلا المصيبة فإنها تبدو كبيرة ثم تصغر، ولله الحمد). وهناك قول مأثور عن توطين النفس على المصائب : (فمن أراد البقاء فليوطن نفسه على المصائب، فإنه متى طال عمر الإنسان وامتدت به الأيام، فلابد أن يلقى منها أوجاعاً مضاعفة من رحيل عزيز حل أجله أو مرض يخرم جسده).
وفي توطين النفس على المصائب قيل في ذلك شعراً:
وَما الدَهرُ وَالأَيّامُ إِلّا كَما تَرى
رَزِيَّةُ مالٍ أَو فِراقُ حَبيبِ
وَلا خَيرَ فيمَن لا يُوَطِّنُ نَفسَهُ
عَلى نائِباتِ الدَهرِ حينَ تَنوبُ
فالمسلم معرَّض في حياته للنقص في الأموال وموت الأنفس، لقصد اختباره لمعرفة مدى صبره على طاعة ربه، ولإظهار ما عليه المرء من قوة إيمان أو ضعف أو جزع.
أتقدم بخالص العزاء، وصادق المحبة والمواساة والدعاء إلى أبنائها محمد وصالح وعبد الله وعبد العزيز، وإلى بناتها: حصة ومنيرة وسلمى ومزنة، داعياً الله العلي القدير أن يغفر لها ويرحمها ويسكنها الفردوس الأعلى من الجنة.. والحمد لله على قضائه ورحمته ومغفرته، والحمد لله رب العالمين.
** **
- د. علي بن عبد الرحمن الطيار