بكري عساس
ما من بقعةٍ معمورةٍ على الأرضِ أطولُ في ذاكرة المكان من مكةَ المكرمة ببيتِها العتيق.
لقد ذكر الأزرقيُّ في تاريخ مكةَ أن الكعبة بُنيتْ عشر مراتٍ، أولُها بناءُ الملائكة قبل خلق آدم، ثم بناء آدم، ثم بناء شيث بن آدم، ثم بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلامُ، ثم العمالقة، ثم جرهم، ثم قصيّ، ثم قريش في القصة المشهورة، ثم ابن الزبير، ثم الحجاج.
نحنُ إذنْ أمام ذاكرةٍ مكانيةٍ ممتدةٍ تسبقُ وجودَ البشر على هذه الأرض، وتستمر معهم إلى اليوم، بل إلى آخر الزمان.
وحين نقفُ عند البناء الأعظمِ للكعبةِ، وهو بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، نجدُ أن الله تعالى يقول: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ}. قال المفسرون: أيْ عينَّا له محله وعرفناه به. فإبراهيم عليه السلام لم يختر مكان البيتِ، بل دله الله تعالى على موضعِهِ. قيل: بسحابةٍ أظلتِ المكان، وقيل بريحٍ كشفتْ عن أسسِ آدمَ عليه السلام.
ويحتفظ هذا البناء الإبراهيميّ بذاكرةٍ مكانيةٍ خاصةٍ به.
ففي مكانِهِ التقى الشرفُ من أطرافه. نقل الرازي في تفسيره الكبير عبارة عجيبة، نصُّها: «ليس في العالم بناء أشرف من الكعبة؛ فالآمِرُ هو الملك الجليل، والمهندس هو جبريل، والباني هو الخليل، والتلميذ إسماعيل عليهم السلام».
زدْ على ذلك ما وردَ بخصوص هذا البناء الإبراهيميّ من نصوصٍ قرآنية متعلقةٍ بالمكانِ، مدارُها على التطهيرِ، والرفعِ، والطواف، والركوع، والسجودِ، والأمنِ، والمثابة، والرزق. وكلها خصائصُ مكانيةٌ، ودعواتٌ نبويةٌ، لهذه البقعةِ المباركةِ.
وتحتفظ لنا ذاكرةُ المكانِ المكيةِ بأجمل وأروعِ صورِ التوكلِ على الله، حين ترك إبراهيم عليه السلام زوجه هاجرَ وابنه إسماعيل {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} مستجيباً لأمر الله، ومسروراً بكلمةِ زوجِهِ المؤمنة: «إن الله لن يضيعنا».
ويجيءُ من بعد ذلك بناءُ قريشٍ للكعبةِ، وهو البناءُ الذي أدركتْهُ قداسةُ المكانِ فلم تُدخل فيه قريش من مالها إلا طيباً، حتى قصرتْ بها النفقةُ عن محاذاةِ بناءِ إبراهيم عليه السلام فبنتها دون ذلك، وأسهم عليه الصلاة والسلام في هذا البناءِ برأيه السديدِ لما تنازعتْ قبائل قريش في الحجر الأسود، ثم وضعه بيده الشريفة -صلى الله عليه وسلم-.
ولما كانتْ خلافة ابن الزبير تعرضتْ الكعبة لحريقٍ وهدمٍ؛ فهدمها -رضي الله عنه- حتى بلغ أساسها القديم، ثم أعاد بناءها على قواعد إبراهيم عليه السلام. ثم جاءَ الحجاجُ فأعادها على ما كانتْ عليه زمنَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
وظلتْ على ذلك حتى كان السيل العظيم سنة 1039؛ فسقط الجدار الشاميّ، وبعض الجدارين الشرقي والغربيّ؛ فأُعيد بناؤها على ما كانتْ عليه قبله.
وذلك هو آخرُ بناءٍ بُنيتْه الكعبةُ إلى اليوم.
وأوسعُ ترميم شهدتْه الكعبةُ بعد ذلك ما كان في زمن الملك فهد - رحمه الله -؛ إذ تم تنظيف ما بين الحجارة من الجدار الخارجيّ، ووضعتْ مكانه مواد حديثة، كما تم تفكيك الجدار الداخلي للكعبة بالكامل، ونُظّفتِ الحجارةُ، ثم أُعيد كل حجر إلى مكانه بالضبط، مع مواد حديثة مثبتة بين الحجارة.
فلله ما أجمل ذاكرة المكان المكيّة، وأملأها بالبركة والقداسةِ والإيمان.