د. فهد بن أحمد النغيمش
مصطلح التربية بمفهومه الدارج لم يكن وليد اليوم ولا الأمس؛ فقد عرفه الإنسان وهو يعيش في أعماق الكهوف والأدغال والشعاب والوديان حين تعامل معها بما يكفل له استمرار حياته وديموميتها!
كانت تربية الإنسان حينذاك تربية مباشرة، يمارسها الفتى عن طريق محاكاة والده، والفتاة عن طريق تقليد والدتها في إدارة أمور المنزل وأداء الأعمال اليومية. وحين توالت الأيام، وكثر الناس، وتعددت أنواع المعرفة، خرجت لنا الفلسفات النظرية والتجارب المنطقية وغير المنطقية؛ فتاهت بعض الأفكار في فهمها، وتعمق البعض في تفسيرها وتحليلها؛ فغاب الهدف، وضاع المسمى من بين أيدينا!
البعض اليوم يعيش ازدواجية مؤدلجة في فهم مصطلح التربية الحقيقية ما بين نظريات تدرس وتعلم، وما يعيشه واقعه وحسه وخياله عن التربية!
نعم هناك اليوم حتى على صعيد المفكرين والعلماء التربويين من يخلط بين التعليم والتربية، وذلك جدل قائم منذ الأزل، لا يتسع المجال لبسطه أو الحديث عنه عبر مقال، أو أن يُفرد له عنوان!
لكن دعونا نناقش الخلط القائم في فهم مصطلح التربية على نطاق الأسرة والمجتمع، فهناك من الآباء من قصر فهمه للتربية على أنها فقط توفير الطعام والشراب والكساء لأبنائه، ويظن أنه بذلك قد قام بواجب التربية على أكمل وجه؛ لذا دائمًا ما نسمع عبارات اللوم من الآباء لأبنائهم عند ارتكاب خطأ ما (هل قصرت عليك بشيء؟) وفّرت لك المال والمأوى والسيارة وكل ما تريد... وهذا يمثل في نظره قمة التربية التي فهمها وحفظها وصفق لها المجتمع، ولكنها - للأسف - هي نظرة قاصرة عابرة، حصرت مفهوم التربية في توفير الماديات، مع إهمال الجوانب السلوكية والوجدانية التي هي أساس التربية التي تُعنى بكيفية تشكيل شخصية الفرد، وبناء القيم والاتجاهات الإيجابية لدينه ومجتمعه وفحوى وجوده في هذا الفضاء العابر.
إن تربية الماديات لا تعمل على إيجاد أجيال تصنع لنفسها مكانة، وترفع لوطنها الراية، ما لم تعاضدها، بل تسبقها التربية الجادة التي تلامس الوجدان، وتخاطب العقول والأفهام. ويأتي المجتمع ليعزز من تلكم الأفكار ويشجعها حتى أصبح المظهر هو الأساس للحكم على هذا الجيل بأنه متحضر أو متخلف. وإذا أردت المقياس الحقيقي للتربية فضع من شئت من البشر في ميزان الأخلاق، وعندها سترى أي تربية نالت حظها الأوفر من هذا الشخص؟ أهي مادية اعتنت بالمظهر دون المخبر أم هي أخلاق تجسدت في تصرفاته وتعامله وحديثه، وأبرزت شخصًا سقيت أخلاقياته بماء المكرمات؟
وعلى النقيض؛ فتربية الفرد لا تكون بحبسه في مكان معين، ثم إعطائه جرعات معينة ومتعددة من معارف متنوعة، ولا تكون بتركه يسرح ويمرح تحت مظلة (إعطائه مساحة من الحرية)، و(التسامح في التعامل)، وإنما الأمر أبعد من ذلك كله؛ فهي حالة من التوازن المعتدل، يبذل الوالدان فيها قصارى جهدهم لتهذيب السلوك وتجميله، وزرع القيم الأخلاقية الكريمة وسقيها!
نعم، يسعى الأب لأن ينال ابنه أعلى الدرجات العلمية والشهادات العالمية، وذاك حق مشروع وأمر مندوح، لا يتنافى مع تربيتهم وتنشئتهم التنشئة الصالحة المستمدة من شرع الله القويم، وهدي سيد المرسلين، ومباعدة الأخلاق غير الحميدة، بل الأمر يتعدى ذلك إلى الحرص على غرس العقيدة الصحيحة منذ الصغر حتى يخرج لنا من نعوّل عليهم الكثير بعد الله - عز وجل - في جميع التخصصات والمجالات، ويخرج لنا عندئذ من يربّي أجيالنا المستقبلية.
التربية الصحيحة هي أن تزرع في عقول الناشئة القدوات الحقيقية بدءًا من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام؛ فقد ربى المصطفى أصحابه - رضوان الله عليهم - صغيرهم وكبيرهم على طاعة ولي الأمر، وعلى حسن الخلق، وعلى إكرام الضيف، وعلى بشاشة الوجه، وعلى الإنصات إلى المتكلم بغير ما حرم الله، وعلى الحياء، وعلى احترام المارة في الطرق.. إلى غير ذلك من الفضائل. ومع ذلك كان يقود الأمة، ويدعو الناس إلى التوحيد، ويستقبل الوفود، ويجاهد في سبيل الله، ويعلِّم ما علَّمه الله تعالى من الأمور الكونية والطبية وغير ذلك؛ فخرج لنا في الأمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير، وغيرهم من الصحابة الكرام.
نحتاج إلى أن نعلّم الآباء ونرشدهم إلى أن هناك فرقًا بين الرعاية والتربية؛ فالاهتمام بصحة الأولاد ورعايتهم وأكلهم وشربهم ونومهم يسمى رعاية للأولاد، بيد أن الاهتمام بعقولهم ودينهم وأخلاقهم يسمى تربية! والكثير - للأسف - لا يفرّق بين الرعاية والتربية. وهنا يكمن الخلل، ويحدث التقصير في التربية!
ذكر علماء التفسير أن الدعاء للوالدين جاء ذكره في القرآن الكريم في قوله سبحانه {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}. إنه من أجل التربية، ولم يقل سبحانه وتعالى كما أطعماني وأسقياني بل {كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}!
نحتاج إلى أن نصحح مفهوم التربية لدى الوالدين قبل أبنائهما، وصياغة معايير علمية، يحتكم إليها عند التربية، وتكون ميزانًا توزن به طرقنا وأساليبنا التربوية تجاه أبنائنا وفلذات أكبادنا بعيدًا عن الاجتهادات غير العلمية وغير المدروسة!
نريد أن نرسخ مفهوم التربية الحق كما أرادها شرعنا الحنيف وهدي خير البرية، لا كما يريدها المجتمع وصنّاع الإعلام الهابط، الذين أمعنوا في تحريف معنى التربية، وغيّروا من مسارها الحقيقي، بل أسهموا - للأسف - في استبدالها بمفاهيم لا تمت للتربية بنسمة، ولا تعززها برسمة.
** **
- أستاذ التربية بجامعة المجمعة