د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
رفض «سقراط» الهرب وحاول ذلك «المتنبي»، وكلاهما واجه الموت برغبته ودونها، وكلاهما صار من الخالدين، والأهم أنْ لم يعدْ أحدٌ معنيًا بتفاصيل رحيلهما، بل بإيقاع حياتهما، وفيها شيءٌ من التمرد، وشيءٌ من التجدد؛ فصار الأولُ 470- 399 ق.م رمزًا لدارسي الفلسفة، والثاني (303- 354هـ/ 915- 965م) رمزًا لمبدعي الشعر.
** بينهما مئات الأعوام زمانًا، وبيدٌ دونها بيدٌ مكانًا، ومسافاتُ لغةٍ وفواصلُ توثيقٍ وافتراقاتُ توجُّه فلا رابطَ سوى مصيرٍ لم يشاءاه فشاءهما، ولم يَعْدُ غيابُهما أن يكون سطرًا في سيرتيهما؛ فليس من عاش كمن عشِي، ولا من تميز كمن تحيز، ولا مَن عبر محطات التأريخ كمن لم يدلفْ إلى بواباته.
** لكلٍ منَّا ذاكرتان؛ ذاكرة قلبٍ تزرعُ الوفاء، وذاكرةُ عقل تصنع الاصطفاء، وقد لا يروق لنا سقراط ولا يعجبنا المتنبي فلا نراهما بالذاكرة الوجدانية لكننا نراهما بالذاكرة الذهنية، وفي كلتيهما أقارب وأصدقاء، وعاملون وخاملون، وأنقياءُ وأشقياء، فنستدعي بعضهم وننسى أكثرَهم، ويتقدمُ بنا الزمن فيسكن ثللٌ منهم حكاياتِ الناس ويُوقدون مناطق الإحساس.
** والاستفهام هنا: أين البقيةُ «من عهد عاد» كما تساءل حكيمُ المعرّة (363- 449هـ/ 973- 1057م) ولماذا نسينا سيرَ أبطالٍ وجهلنا رواسمَ أطلالٍ، وماذا عن ذاك الذي علّم، والآخر الذي داوى، والثالث الذي حلَّ مشكلة الماء، وغيرِهم ممن تعاملوا أو عملوا في البناء والكهرباء والبيع والشراء والقضاء والإفتاء؟
** في مدننا وقرانا الصغيرة يُومِئُون إلى أرقامٍ فاعلةٍ من ذوي العطاء، وكان فيهم من حفر بئرًا وسقى زرعًا ووزع بريدًا وجلب صحفًا وافتتح مكتبة واستثمر في مخبزٍ وملحمةٍ ومحل خضار، ولم يكونوا ذوي يسار فلم يَهنؤوا وقت الجهود مثلما لم يُقدَّروا بعد القعود.
** تتجلَّى هنا معادلة المتن الذي يحتله الهامش والهامش الذي يهمله المتن فتبدو صورة المجتمع غيرَ مضيئةٍ لمن أمضوا حياتهم في الظل من غير أن يرجُوا أو يُجزوا مفترقين عمّن همُّهم الضوءُ اجتذابًا بتوسلٍ واستجلابًا بتسوّل.
** لم يطلب سقراط الشهرة فلم يُؤلف ولم يَستهدف، ولم يدّعِها المتنبي فتوجه تلقاءَ النَّصب والمنصب، ومن « يطلب الموت توهبْ له الحياة»، وعند الاتجاهِ نحو الضدّ يستقيم المسارُ إلى البقاء؛ فالهروبُ من» و»الهروبُ إلى»: معنيان متقابلان أبرزا قيمًا وقممًا، وأثريا ورثيا، وخرج الكبيران من دنيا الأحياء ليستقلّا مسالك البقاء.
** اليوم لم تصبح الشهرةُ والتكريمُ والوجاهةُ مرتهنةً بتأسيس منهجٍ كسقراط أو تفرد نهج كالمتنبي، ولا بخدمةٍ عامةٍ تَحتسب أو تَكتسب؛ فالبضاعة مُزجاة، والوقت ملهاة، والغايةُ هدرٌ وهذرٌ.
** نحتاج إلى التفكير برحلة الخروج فخلف بواباته سكنٌ يستحقه قلةٌ قد نجهلهم أو نتجاهلهم، ولا بأس، إذ يكفيهم أنْ رضُوا عن ذواتهم وأخلصُوا لأهدافهم فسعَوا ووعَوا، ولم يستكثروا ولم يستكبروا، ومضوا بعدما أمضوا.
** الدخولُ مَسير والخروجُ مصير.