د. محمد بن يحيى الفال
قبل أيام خلت صوّت المجمع الانتخابي الأمريكي بفوز بطاقة الحزب الديمقراطي بالانتخابات الرئاسية الأمريكية؛ وعليه سيتم تنصيب مرشح الحزب جو بايدن في العشرين من شهر يناير المقبل في منصب الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة، وتشاركه السيناتور عن ولاية كاليفورنيا كاملا هاريس في منصب نائب الرئيس.
تصويت المجمع الانتخابي منح بطاقة بايدن - هاريس 306 أصوات مقابل 232 صوتًا للرئيس دونالد ترامب الذي أخفقت نتائج الانتخابات في حمله للفوز بولاية ثانية. وفي انفراجة مهمة تلت تصويت المجمع الانتخابي صرّح رئيس الأغلبية الجمهورية ميتش ماكونيل في كلمة ألقاها في المجلس بقوله: «أصبح للبلاد رئيس منتخب ونائبة رئيس منتخبة».
تصويت المجمع الانتخابي يعتبر من الناحية القانونية إعلانًا رسميًّا باسم المرشح الفائز بمنصب الرئاسة، وجاء ليضع حدًّا لصراع محموم وغير مسبوق في التاريخ السياسي الأمريكي الحديث، لم تكن ساحته فقط المنافسة بين الحزبين الرئيسَين في أمريكا، الجمهوري والديمقراطي، بل تعداها ليشمل كذلك الشعب الأمريكي نفسه، ووسائل إعلامه، ومنصات التواصل الاجتماعي، وحتى من ليس لهم علاقة بالانتخابات الأمريكية من الناس عبر العالم، وجعل الكثير يتخوف من إمكانية نشوب فوضى عارمة في مختلف أنحاء البلاد بسبب رفض الرئيس ترامب المنتهية ولايته نتائج الانتخابات واصفًا نتائجها بأنها أكبر عملية تزوير تشهدها أمريكا على امتداد تاريخها.
عملية تعديل نتيجة الانتخابات شهدت صراعًا قانونيًّا شديد الحدة، قاده رودي جولياني المحامي الخاص للرئيس ترامب، الذي شغل في السابق كذلك منصب عمدة مدينة نيويورك. ولعل الملاحظة غير المسبوقة التي أفرزتها ادعاءات الرئيس ترامب بتزوير الانتخابات هي ما قام به المدعي العام لولاية تكساس بتدخل في الشؤون الداخلية لولايات خارجة عن نطاقه القانوني برفعه قضية، سانده فيه الرئيس ترامب، إضافة لسبع عشرة ولاية أخرى ذات هوى جمهوري ضد الولايات المتأرجحة المكونة من ولايات (ميتشغان، بنسلفانيا، جورجيا وويسكنسن)، التي فاز بايدن بها جميعًا. وفحوى الدعوى أن هذه الولايات غيّرت قوانينها الانتخابية بسبب جائحة كورونا، وسمحت بالتصويت البريدي غير المأمون على نطاق واسع.. لترفض المحكمة العليا الأمريكية الدعوى بسرعة ملاحظة كون الدعوى لا مسوغات قانونية لها، وتناقض البنية التي تقوم عليها الولايات المتحدة بأنها جمهورية فيدرالية بصلاحيات مستقلة لكل ولاية، وذلك إضافة لفشل فريق الرئيس ترامب القانوني في إثبات تزوير الانتخابات في أكثر من أربعين قضية تم ردها، ورد استئنافاتها؛ ورُفضت جميعًا.
الكثير من قيادات دول العالم، منها قيادة المملكة التي تربطها بالولايات المتحدة علاقات استراتيجية متجذرة، هنأت الرئيس المنتخب جو بايدن، وأعربت عن تطلعها للتعاون مع إدارته في تطوير العلاقات السعودية - الأمريكية، وتعزيزها بما يخدم البلدين والشعبين الصديقين. وبدوره، فقد أرسل الرئيس المنتخب رسالة غاية في الإيجابية لدول منطقة الخليج العربي حينما أدلى بتصريحات صحفية، شدد فيها على أهمية مشاركة دول المنطقة لأي اتفاق قادم مع إيران وملفها النووي.
تصريح الرئيس الأمريكي المنتخب بايدن يوضح بجلاء أنه على اطلاع كثيف على ما سببته القيادة الإيرانية لعقود، ومنذ ثورة الخميني في عام 1979، من زعزعة لأمن دول الخليج العربي والإقليم المحيط بها.
تاريخيًّا، العلاقات السعودية - الأمريكية تم وضع ثوابت لها باللقاء الشهير بين الملك عبدالعزيز - رحمه الله - والرئيس الأمريكي الراحل فرانجلين ديلانو روزفلت في الرابع عشر من فبراير 1945، الذي تم في البحيرات المرة بقناة السويس على متن البارجة الحربية الأمريكية كوينسي. ومنذ ذلك الحين والعلاقات السعودية - الأمريكية تتطور وتتعزز في المجالات كافة، حتى أضحت مع مرور الوقت علاقات استراتيجية، يُضرب بها المثل في قوتها ومتانتها بأنها تستند إلى الاحترام المتبادل، والتعاون البنّاء المثمر، واستطاعت أن تتجاوز الكثير من الصعاب التي سعت لتقويضها.
ومع قول ذلك فإن الأصدقاء قد تكون لهم وجهات نظر مختلفة، وهو ما نراه جليًّا من نتائج على الأرض، أعقبت الاتفاق النووي مع إيران في إبريل 2015 الذي أبرمته إدارة الرئيس باراك أوباما معها، إضافة لخمس دول، هي (الصين، روسيا، فرنسا، ألمانيا وبريطانيا)، وانسحبت منه إدارة الرئيس ترامب.
الاتفاق في ظاهره بدّد مخاوف دول العالم الكبرى من تمكُّن تصنيع إيران قنبلة نووية، ولكنه في المقابل أطلق يدها في تهديد دول المنطقة، وهو الأمر الذي جعل ساستها يفتخرون علنًا بأنهم احتلوا أربع عواصم عربية، وبأنهم قادرون على فعل ما يريدون بالمنطقة، وفي الوقت والمكان اللذين يحددانه. وكان سلاحهم في معظم هذه التدخلات برنامجًا قديمًا ومتطورًا وخطيرًا ومتكاملاً للصواريخ الباليستية التي هددت إيران في الكثير من المناسبات باستخدامها مباشرة ضد دول المنطقة، وزودت بها عملاءها في المنطقة بتقارير موثقة للأمم المتحدة؛ إذ زودت ذراعها في اليمن (عصابة الحوثي الانقلابية) بمخزون ضخم من هذه الصواريخ الباليستية التي ما انفكت عصابة الحوثي تقوم بإطلاقها منذ سنوات على مدن المملكة الآهلة بالسكان والمنشآت الحيوية، وزودتهم كذلك بالطائرات المسيّرة لإشعال مخازن النفط الكبرى ذات الأهمية القصوى للاقتصاد العالمي، وبقوارب موجّهة لتهديد المنشآت النفطية التي تمد العالم بالطاقة وطرق الملاحة الدولية في البحر الأحمر.
ما فات على الرئيس باراك أوباما من سلبيات الاتفاق النووي مع إيران، وتهديدات صواريخها الباليستية، لم يفت -فيما يبدو- على الرئيس المنتخب جو بايدن. ونرى ذلك في تصريحه حول أهمية مشاركة دول الخليج في أي اتفاق قادم مع إيران. ولعله من المناسب هنا التذكير بأن المملكة قيادة وشعبًا يقدرون الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما الذي زارها أربع مرات خلال فترة ولايتَيه، وزاد هذا التقدير عندما قطع زيارة الدولة التي كان يقوم بها للهند ليغادرها إلى المملكة؛ ليقدم واجب العزاء في الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله-.
العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على القيادة الإيرانية بدأت تؤتي أُكلها؛ فهذا هو الرئيس الإيراني روحاني يطلق تصريحات ماراثونية متتالية في الآونة الأخيرة، يرغب فيها بإنهاء ما أسماه الحرب الاقتصادية على بلاده مع قدوم الإدارة الأمريكية الجديدة لسدة الحكم، وتناسى أن بلاده تشن حربًا ليست اقتصادية فقط بتهديدها إمدادات الطاقة الدولية عبر ممرات الملاحة العالمية، بل تقوم أيضًا بشن حرب بالوكالة عن طريق عصابتها في اليمن التي أدمت الشعب اليمني الشقيق بنتائج كارثية على أهل اليمن، التي سعت المملكة بكل إمكانياتها لتجنيب الشعب اليمني الشقيق ويلاتها، وذلك بإطلاقها مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية منذ البدايات الأولى للصراع الذي لا تزال فيه عصابة الحوثي تصر على عدم إيجاد حل سلمي له، مغلبة مصالحها الضيقة على مصالح الشعب اليمني الشقيق؛ وذلك برفضها لسنوات تطبيق القرارات كافة ذات العلاقة لإنهاء الصراع في اليمن، ومن ذلك القرار الأممي رقم 2216، والمبادرة الخليجية وآلياتها التنفيذية، ومخرجات الحوار الوطني اليمني.
يشبّه البعض الظروف الذي تولى فيها الرئيس بايدن دفة القيادة في أمريكا بالظروف التي تولى فيها روزفلت قيادة أمريكا. روزفلت تولاها في فترتين عصبيتين على الأمة الأمريكية، هما الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية، وقاد أمريكا، وأخرجها من الكساد إلى الانتعاش الاقتصادي، والخروج منتصرة في الحرب العالمية الثانية. ويتوقع الكثيرون أن إدارة الرئيس بايدن كذلك، الذي اختار فيها امرأة نائبة له، هي السيناتور عن ولاية كاليفورنيا كاملا هاريس؛ لتكون أول امرأة تتولى منصب نائب الرئيس في تاريخ الولايات المتحدة، وليكونا فريقًا ملهمًا وقادرًا على الخروج بأمريكا من الانقسام الحاد والشرخ بين الأمريكيين أنفسهم، الذي سببته الانتخابات، والقضاء كذلك على التداعيات المتعددة والشائكة كافة التي سببتها الجائحة الكونية.
في وقت الأزمات، كما في الأوقات الأخرى، يظهر الأصدقاء الحقيقيون، كما هو حال المملكة والولايات المتحدة؛ فقد أثبتت التجربة تلو الأخرى أنهما قادرتان على التعاون بينهما فيما يصب في مصلحتهما التي يسعيان في محصلتها النهائية إلى تعزيز السلم والتعاون الدوليَّين، والرخاء للبشرية جمعاء.