عبدالوهاب الفايز
من يقرأ الكتاب المهم للأمير الدكتور عبدالعزيز بن عياف، أمين منطقة الرياض سابقًا، وما يناقشه من أفكار وتحديات وفرص ضائعة في القطاع البلدي السعودي، يجد جانباً من أدبيات عمل الحكومات والمجتمعات، فهذه تصل إلى مرحلة تجد نفسها في مواجهة مشكلات وتحديات توصف بـ(أزمة النجاح).
وهذا ما نواجهه الآن، بل (رؤية 2030) تستهدف البناء على النجاحات السابقة لبلادنا، ويسعى لعلاج المشكلات والتحديات التي أفرزتها طفرة البناء السريعة.
لقد أخذتنا سنوات الطفرة النوعية للتنمية.. وحيويتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى مرحلة أزمة. نجحنا في الإسكان ولكن واجهتنا تكلفة توسع المدن. نجحنا في التعليم ثم اكتشفنا أزمة الوظيفة. نجحنا في تحسين الرعاية الصحية فارتفع عدد السكان نتيجة خفض الوفيات للأطفال وارتفاع معدل الأعمار.
ومما يناقشه الدكتور العياف في كتابه - (مُدوِّناً تجربته الثرية في القطاع البلدي وفي التخطيط العمراني وإدارة المدن) - نرى مدى حجم التحديات التي تواجهها بلادنا نتيجة لنجاحنا في تنمية المدن، وتنمية قطاع الإسكان بعد إطلاق صندوق التنمية العقاري، وتكثيف الإنفاق الحكومي لرفع مستوى الخدمات الأساسية التي تقدمها البلديات للناس.
في الكتاب تناول المؤلف التحديات الرئيسة التي ترتبت على هذا النجاح في التنمية العمرانية، بالذات التحدي الأهم وهو: القدرة على استمرار جودة التشغيل والصيانة والنظافة والإدارة لمدننا. يشير الدكتور العياف إلى أن هذا الموضوع استقطب اهتمامه في الأشهر الأولى لتعيينه أمينًا للعاصمة. لقد أدرك أن استمرار البلديات في الاعتماد على التمويل الحكومي يشكل خطرًا كبيرًا، وقد رأى ذلك في تراجع مخصصات الأمانة بشكل كبير من 3 آلاف ريال للفرد الساكن في الرياض عام 1400هـ إلى 150 ريالاً عام 1420هـ.
انخفاض الاعتمادات تم رغم ارتفاع سكان العاصمة من 850 ألفاً إلى 4 ملايين نسمة. هذا الوضع الخطير دفعه للعمل على ضرورة التحرك لمعالجة مشكلة الإيرادات المالية، وخصص الفصل الثالث تقريباً للحديث عمَّا اسماه (الاعتمادات المالية والتحدي الحقيقي للمدن السعودية). وهذه الحاجة الملحة للقطاع البلدي وضعها في أولويات (التقرير الشامل) الذي أعده حول تحديات المدن السعودية ورفعه حينئذٍ إلى وزارة الشؤون البلدية والقروية، وجاء بعد مرور خمس سنوات على عمله في الأمانة، وكانت هذه المدة كافية للوقوف على أبرز تحديات المدن السعودية.
لقد استخلص من التجربة أن تجاوز التحديات في إدارة المدن تتطلب (انتقالها من الاعتماد الكلي مالياً على الدولة إلى اعتمادها الذاتي على إيراداتها واستثماراتها البلدية). وهذا يتطلب ـ في رأيه ـ معالجة اللا مركزية الإدارية والمالية، وأيضاً معالجة (الجانب الفني)، فهذا بحاجة ماسة إلى التطوير، وهنا يرى أن التجربة السعودية الناجحة في بناء القطاع البنكي يمكن تكرارها مع القطاع البلدي.
لقد رأى أهمية (محاكاة تجربة البنوك السعودية) حيث استطاعت، وبمساعدة ومشاركة الشريك الأجنبي القوي المتطور، أن تنتقل إلى مستوى متقدم في الخدمات والمنتجات. مما يقترحه، وسبق أن سمعته منه أكثر من مرة قبل عشر سنوات، هو مشاركة أمانات المدن السعودية مع إدارة المدن والعواصم العالمية المتقدمة للاستفادة من تجربتهم في إدارة وتشغيل المدن الكبرى. مثل هذا المقترح تبنته لاحقًا الطيران المدني لإدارة وتشغيل المطارات الرئيسة.
والسؤال: كيف تنمو الإيرادات المالية للبلديات؟ يرى أن هذا ممكن عبر التوسع في الاستثمارات وبدون التركيز على (فرض رسوم وضرائب مباشرة على المواطنين). فالفرصة متاحة في المدن الكبيرة لاعتمادها مالياً على نفسها عبر مضاعفة إيراداتها عن طريق قنوات كثيرة لا تمس المواطن، بل يتم التركيز على أنشطة، ومبادرات مثل مبادرة (نظام البناء المطور)، التي كانت تستهدف إيجاد (حل تنظيمي يضبط الأبنية، ويعزز الاستثمارات في الشوارع التجارية، ويتيح للأمانة تحصيل مقابل مادي من ملاك الأراضي والمطورين الذين يختارون طواعية تطبيقه في مدينة الرياض، ويُسمح للملاك والمطورين بإضافة زيادة رأسية على المساحة المبنية ضمن شروط محددة).
هذه المبادرة لم تجد التجاوب رغم أن (عوائدها السنوية يمكن تقديرها بعدة مليارات من الريالات سنوياً). وتجاهل هذه المبادرة الوطنية الآن نعرف ثمنه!. يقول متألماً: (كان من الممكن قبول المبادرة ودعمها، وأن تصبح مبادرة مبشرة تعين أهل المجال المهني والأكاديمي على تجاوز نمط التفكير العقيم والنهج المتكلس الراهن في إدارة مدننا). وللحديث بقية.