د.فوزية أبو خالد
(1)
بينما لم يكن لتجربتي وأنا طالبة جامعية يافعة بمدينة بورتلاند ولاية أوريجن في استصدار رخصة أمريكية لقيادة السيارة أي بعد عاطفي ولا أي ضرورة تأملية إلا ربما طيف طفيف بأمنية بعيدة مضمرة مقموعة لدرجة أن لم يخطر على بالي حينها التفكير بها بصوت عال إلا لنفسي بأن يتحقق ذلك بالمملكة، فقد جاءت تجربتي لاستصدار رخصة سعودية لقيادة السيارة في هذا العمر المُعتق مشحونة بالشجن الوجداني المتراوح بين فرح وحزن وبين تساؤل وتأمل.
فلا شيء يضاهي الإحساس بحب الوطن إلا الإحساس بالقدرة على تنفس هواء طلق تحت سمائه والحركة بأمان وحرية على أرضه والعيش بعدل وكرامة بين ظهرانه.
***
ولأبدأ سرد التجربة بأسلوب التداعيات:
(2)
عندما جادلت الكاتبة ليندا جين شفرد في كتابها أنثوية العلم، كم خسر العلم عبر تاريخه التأسيسي وردحا طويلا من التاريخ بعده بغياب النساء قولاً وعملاً فكراً وتجربة عن هذا الحقل الحيوي من حقول المعرفة الإنسانية (المعرفة العلمية) موضحة بالإحصاءات والشواهد بعض أوجه هذه الخسارة فقد قصدت تلك الخسارة الناجمة عن عدم مشاركة المرأة في العملية العلمية بتلك النعم التي أودعها الله في النساء من نعمة العقل ونعمة الوجدان ونعمة المساواة وفي الوقت نفسه نعمة الاختلاف التي نتمتع بها كبشر وينعكس تنوعها على أدائنا العمراني في بعده اليومي وفي بعده التاريخي معاً. وفي تلك المحصلة قامت المؤلفة ببناء جدليتها على فرضية أن المعرفة العلمية وسائر النشاط الإنساني سواء في مجال الفكر أو التطبيق لا يعتبر كاملاً إلا بمشاركة عنصري التكوين البشري وهما الرجل والمرأة. إذ إن مساهمة كل منهما في النشاط الإنساني تضفي لمسة نوعية لكل منهما هي بمثابة البصمة الخاصة التي لا يغني وجود إحداها عن الأخرى لسبب بسيط هو تفرد كل منهما المؤدي للتكامل.
والملفت أن بحث خسارة جهد وتجربة النساء في الحقل العلمي لم يتوقف على تلك اللقطة الذكية لكتاب أنثوية العلم بل لفت نظر المجتمعات لتلافيها من خلال قيام عدد من تلك المجتمعات بمراجعة خساراتها في حقول حياتية ومعرفية أخرى تأخر دخول النساء إليها من حقل تصميم الأزياء إلى الفقه في الحقل الديني ومن مجال التعليم إلى مجال السياسة ومن مجال الأدب لمجال الفلسفة.
***
(3)
مرت في كاميرا ذاكرتي تلك القراءات غير المتباكية على قصور الماضي بقدر ماهي ناقدة له عاملة على تصحيحه بخطط مستقبلية لتجسير تلك الفجوة التاريخية لغياب النساء المعرفي في المشهد الحياتي في معظم المجتمعات المعاصرة اليوم وأنا أمر بتجربة الحصول على رخصة القيادة/ قيادة السيارة في وطني. ذلك الحق اليومي البسيط الذي حرمت منه أجيال من النساء بغير حق ردحاً غير قصير من الزمن.
***
(4)
ودون أن أستطيع إلا أن أعرج على منظومة حقوق مدنية بدهية أخرى كان قد حرم منها النساء ومرت بنضالات مريرة وسجالات عقيمة قبل أن تتحول بقرارات سياسية حاسمة إلى راهن بسيط معاش من قرار تعليم البنات لقرار التعليم الجامعي في شتى التخصصات خاصة التخصصات السجالية في دولة ومجتمع محافظين مثل تخصص الطب وعموم العمل في قطاع الصحة والتجارة ومجالات العمل العام, ومن قرار أهلية المرأة ليكون لها هوية وطنية مستقلة عن أبيها وزوجها وحق الحركة والسفر وحضانة الأطفال إلى قرار الإقرار بأهلية المرأة للعمل الحقوقي والدبلوماسي، فقد كانت عملية التقدم للحصول على رخصة سعودية للقيادة تعطيني الحق للسير بنفسي على أرض بلادي والتجول في شوارعها وحواريها وأحياءها وطرقاتها المعبدة والوعرة تجربة تستحق في رأي التوثيق الاجتماعي والكتابة عن شجنها ورصد بعض ملامحها.
****
(5)
ولهذا فقد عزمتُ أن أدخر لمقام آخر كتابة ضافية لموضوع تجربتي الشخصية في العلاقة بموضوع قيادة السيارة من ما قبل اللحظة التي تقدمتُ بها لمدرسة القيادة السعودية الأولى بجامعة نورة إلى اللحظة التي حزت فيها على «الرخصة»، وإن كنتُ سأختم هذا المقال ببعض لمحات عجلى إنما موحية عن تجربتي الشخصية في الحصول على رخصة سعودية لقيادة السيارة.
وفي هذا لا بأس أن أسارر القراء بالسؤال الذي ساورني في هذا الشأن وهو هل هناك من زملائي الكُتاب من سبق ورأى أي أهمية لكتابة تجربته في «الحصول البديهي» على رخصة السيارة وربما من نعومة أظافره؟
وقد وجدتني أشك في أمر ذلك بالنسبة للزملاء الكُتاب لبديهية الأمر بالنسبة لهم بينما لم يخل الأمر من كتابات زميلات كثيرات في هذا الشأن لما يزيد على الأقل عن ربع قرن بدءاً من كتابات المطالبات العديدة بحق قيادة السيارة ومنها كتاب التوثيق التاريخي لهذا المطلب ومشاقه في كتاب د. عائشة المانع ود. حصة آل الشيخ إلى سيل الكتابات الورقية والإلكترونية التي كتبها عدد كبير من الزميلات ما قبل وما بعد قرار التصريح للمواطنات باستصدار رخصة قيادة سيارة سعودية أسوة بالمواطنين.
***
(6)
على أنه لابد أن أتوقف عن الحفر الشجني في الكتابة عن موضوع قيادة النساء للسيارة الذي كان قد تحول عبر ثلاثة عقود من نوفمبر 1990 إلى 2017 إلى جدلية اجتماعية تاريخية ليس بوصفه مطلباً وحسب ولكن بوصفه رمزاً لتحدي التحولات الاجتماعية عموماً وللمرأة السعودية خاصة لأكتفي بالكتابة عن لمحات من تجربتي الشخصية بوجهها العملي في الحصول على الرخصة.
*****
(7)
ليس خاتمة المقال:
قابلتُ في أكبر مجمع ميداني لتدريب قيادة السيارة بجامعة الأميرة نورة وجوهاً متوردة من الشابات السعوديات ومن سيدات من الوطن العربي كما قابلت قامات بنات وثابة مشحونة بالحماس وحب الوطن وحب الحياة من الموظفات والعاملات في المدرسة السعودية للقيادة. يعملن بحيوية ويتحدثن بحيوية وفخر عن تجربة تأسيس المدرسة وعن الإقبال المنقطع النظير على خدمات المدرسة بل وعلى الإنضمام لخلية العمل بها. وكان من تلك الباقة من الشابات المشتعلات حباً للعمل أ.مي أبانمي, نورة الدوسري, أبرار المنصور، فوز ومها وعبير وبتلات أخرى لم يسعفني الوقت لقراءة الأسماء على البطاقات اللواتي يتوشحن بها كأطواق ياسمين أو رشارش من زهو. كما قابلت من مدرباتي لست ساعات من مصر الأستاذات نهلة دويدار، عزة هاشم ومن السعودية نوف البندر وشروق الشهري وانتظار عبدالله، وكأن حظي ساعدني أن التقي في عدد قليل من الساعات هذا العدد الواسع من المدربات
هذا عدا عن الأستاذة الصغيرة الكبيرة الفاحصة منى الرشيدي التي تعاملت بمنتهى المهنية مع عملها ومعي. وقد لفت نظري الحساسية العالية التي جرى بها التعامل مع الحالات التي تواجه تحدياً حركياً.
كان إحساساً لا يصدق أن تركب عن يميني شابات سعوديات في عمر الورد مُدِربات وفاحصة. وأن يصبح لدينا هذا الكادر العريض رفيع التدريب عالي المهنية من الفاحصات والمدربات والطاقم الإداري والطاقم المروري المساند من شابات سعوديات في هذا الوقت القياسي.
ولا أستطيع إلا أن أذكر بأمانة الاستعداد العملي والميداني الضافي الذي وفرته الدولة بالتعاون مع عدد من الأجهزة التنفيذية الحكومية من الميدان الشاسع المؤهل إلى التخطيط المروري له بأدق المواصفات المرورية إلى سيارات التدريب والفحص المجهزة بالضروريات المرورية إلى الفحص الطبي وسواه من مكملات القيادة الآمنة. بما يشكل نموذجاً تعليمياً حياً لعلم قيادة السيارة أرجو أن تحتذي به مدارس القيادة لقيادة آمنة بالنسبة للشباب أيضاً.
ويبقى أن التجربة خلقت داخلي شعوراً لا ينقطع من الدهشة وأنا لا أستطيع أن أحصي أعداد البنات والسيدات المتقدمات للتدريب النظري والعملي أو للفحص. نساء سعوديات من كل المناطق ومن كافة الأحياء ومن كافة الفئات ومن كل الطبقات ومن جنسيات عربية وغير عربية أيضاً. نساء بمختلف المشارب ومختلف المرجعيات، ومختلف أطياف الحجاب ومختلف ألوان العباءات في تعايش سلمي واحترام باد للاختلافات.
ولم أكن أستطيع بطبيعة هواية الكتابة ومهنة البحث خلال الثلاثة أيام التي واظبتُ بها على الحضور أن أكف عقلي عن التساؤل عن الأسرار والأسئلة السيسيولوجية التي لا يزال يتعين على المعنيين من الأكاديميين والمحللين الاجتماعيين والتاريخيين بحثها وفحصها في مسألة التحولات والتفريق بين صراعاتها المفتعلة وبين الجدل التفاعلي للتغيير وشروطه السلمية.