في زمن من الأزمان الجميلة صاغت مخيلة الشاعر الأمير رائعته الأدبية غير المسبوقة قصيدته التي أطلق عليها اسم «البرواز»، لتحكي عن قصة محبوبة قد خانت حبيبها وتركته، وأن هذا المشهد من الخيانة قد تكرَّر من صورتها التي كان لا يزال يحتفظ بها، فقد تفاجأ بأن هذه الصورة في يوم الأيام خانت بروازها؛ ذلك لأنها أخذت من طباع وشخصية محبوبته.. إلا أني أعلم يقيناً بأن الصورة دائماً هي ليست الأصل مهما تشابها، وهذا لا يغيّر شيئاً بالطبع مما حملته وما زلت أحمله من إعجابي، بل وحبي لهذه القصيدة كلمات وغناء.
من حين لآخر نتفقد صورنا ونستعرض شيئاً من ذكرياتنا الجميلة المفرحة وحتى المحزنة أو المحبطة والتي عشناها داخل حدود هذه الصور.. بل ويبلغ بنا الأمر أن نعرض صورة لمولود على شخص ونقول له هذا أنت، فيتقبلها ويؤمن بها، بل ويفرح بها وقد يضحك منها، وهو لم يعش ولا ثانية من أحداث هذه الصورة.. التقطها من حوله ووسموها باسمه وتداولوها لأحداث كانت تخصهم هم، فهو بالأصح كان «خارج الصورة» فعلاً.. تتقلّب الصور بين أيدينا فنجد أن أصابعنا تتحوّل فجأة إلى مصفاة تصفي الصور إلى جميلة وغير جميلة وفقاً لمعاييرنا نحن، وانطباعاتنا الذاتية التي نتجرأ عادة لنسقطها على كل ما حولنا بما فيها الصور، ولم نتخيل في يوم مدى شعور إحدى هذه الصور بالحزن والضياع عندما نضعها في قائمة الصور غير المرغوب فيها أو نضعها في الخلف حتى لا يراها أحد أو حتى نمزقها.. وإذا ما قدمنا الصورة المغلوبة على أمرها على مائدة الفلسفة والتفلسف نجدها وجبة دسمة قد تناهمتها أيدي الفلاسفة، فرأوا بأن الصورة تقدّم معرفة لكن هذه المعرفة قد تكون منقوصة أو قد لا تشكِّل معرفة أصلاً، وكانت الفلسفة الواقعية الساذجة فقط هي من تتفق معنا في تعاطينا للصور فهي ترى أن الأشياء في الواقع ترى كما هي عليه حقيقة، غير أن غيرها من الفلسفات حتى الفلسفات الواقعية الأخرى قد ترى بأن لكل ذات عدة ذوات فذات كما يراها صاحبها وذات كما يراها الآخر والآخران والأكثر، فما بال بالصورة التي قد يراها الآخر ولا يراها صاحبها، ناهيك أيضاً عن فلسفة الفلسفات الأخرى والتي لكل منها نوافذها في رؤية الواقع بما فيه صورنا. فعلى سبيل المثال الفلسفة المثالية تنكر الواقع وتؤمن بأن هناك مثلاً مطلقة ثابتة لا تتغيّر وهي مصدر المعرفة الحقيقية، والسؤال هنا ما قيمة صورنا مع وجود هذه المثل؟! أو الفلسفة الديكارتية العقلية والتي ستقنع طفلاً قهراً بأن الصورة التي أمامه هي أمه التي ماتت عند ولادته؛ لإيمانها بأن الإدراك البشري أساسه العقل مستقلاً عن التجارب الحسية.
أما على مسرح الفن فتلعب الصورة دائماً دور البطل الرئيس. ومن يقرأ تاريخ الفنون يدرك بوضوح كم كبحت المتغيّرات المجتمعية الصورة من متغيّرات سياسية وفكرية وثقافية واقتصادية وتاريخية.. وتحكمت في إخراج صورنا بدون مراعاة لمشاعر وأحاسيس هذه الصور.. ويكفينا ظلماً لهذه الصورة عندما نعلم أنه في العصر الباروكي في أوربا ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، أرغمت الصورة على أن تعيش حالة من الحزن المؤبد، حيث كان فنانو الباروك مغرمين بالجانب الحسى وجيشان العاطفة الحزينة في الصورة.. حينها أرغمت على دخول سجن الظلال الذي فرض عليها كالحكم المؤبد؛ فمن سمات هذا الفن الضوء أحادي المصدر، فالتباين الشديد في الضوء والظل هو ما يساعد في إظهار الانفعالات والعواطف وتجسيد الحس الدرامي في الصورة.
صورنا ليست هويتنا.. وإنما هي لحظات مسترقة أو مصطنعة من حياتنا، فقد تظهرنا في جو دافئ بينما نحن كتلة من الثلج، وقد نظهر الابتسامة بينما قلوبنا تكاد أن تتفطَّر ألماً، أو نظهر الرضاء ونحن في قمة سخطنا على أنفسنا والأيام.
وقد تحكمنا الأضواء أو الظلال لترسم على ملامحنا خصائصها وليس خصائصنا غير آبهة بنا ولا بمشاعرنا. عزيزتي صورتي سأصارحك بالحقيقة والتي قد تكون قاسية عليك قليلاً, عزيزتي أنا لست أنت! ولم أكن يوماً كذلك.. بل قد تكونين شيئاً غريباً عني وأنا غريبة عنك.. فأنا سأنطلق بحريتي ولن أسمح بسجن نفسي داخل لقطة عابرة أو مقصودة، بل وحتى مفتعلة، سأضحك بأعلى صوتي، وأتمايل في حديثي، وأداعب خصلات شعري دون أدنى قيود علي، لن أكترث لا بالصورة ولا بالبرواز.