عمر إبراهيم الرشيد
من أشهر الحكم الإنسانية تلك التي قالها الفيلسوف اليوناني سقراط (تكلم حتى أراك)، والإنسان رجلاً كان أو امرأة تتضح ملامح شخصيته من مستوى فكري ونضج نفسي من خلال كلماته التي يستخدمها وأسلوبه في مخاطبة نفسه والناس. ويقول الإمام علي رضي الله عنه (لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه) وهذه الحكمة تجسيد للمعنى الذي قصدته، فتجد الحكيم والمرأة الرزينة ينتقون كلماتهم في الغالب وهي ما يؤثر في السامع ويعطي الانطباع عن عمق شخصية المتحدث وسعة أفقه. ولكي يتمكن الإنسان من امتلاك الأسلوب الراقي في الحديث عليه أن يحوز على أكبر قدر من المفردات والتعابير، وهذه لا تأتي إلا بالاطلاع والقراءة ومتابعة البارزين من مفكرين ومؤثرين كل في مجاله، وذلك في كتاباتهم أو برامجهم أو ما ينشرونه من خلال وسائل التواصل سواء كتابياً أو مقاطع مرئية أو مسموعة، والإنسان عموماً يتعلم من الحياة بكل ما فيها إذا أحسن الاستفادة من إخفاقاته قبل نجاحاته. ولقد استطاع القادة عبر التاريخ التأثير في الجماهير عبر خطبهم وأساليبهم في الكلام، فهتلر أثر في الألمان عبر خطبه الملتهبة وتوظيف الكلمة المؤثرة فيهم، ويروى أن أحد مستشاريه كان له صديق عراقي حدثه عن القرآن الكريم ومنها سورة القمر وأول آياتها {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ} فعرضها المستشار بدوره على هتلر فأعجب بها وافتتح بها إحدى خطبه.
ولن يتمكن إنسان من فهم نفسه وتجميل فكره وأسلوبه وبالتالي التأثير في الآخر دون العناية بلغته، وإنك تجد بعض الكتاب وبعض المثقفين ممن لا يعتنون بلغتهم الأم، وقد كشفت وسائل التواصل هذا الضعف، تجد كتاباتهم وقد فقدت جمالها وبالتالي تأثيرها. كان يوم الجمعة الفائت هو يوم اللغة العربية العالمي (18) ديسمبر (كانون الأول)، وهو ا ليوم الذي أقرت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة اعتبار اللغة العربية إحدى اللغات الرسمية لعمل المنظمة الدولية، وذلك بعد اقتراح تقدمت به المملكة والمغرب عام 1973م. وبالمناسبة ولإنعاش الذاكرة اللغوية والحضارية فإن اللغة العربية تمتلك (16000) جذر لغوي، ومثال الجذر اللغوي كلمة (كتب) والتي يشتق منها كلمات مثل كاتب، كتاب، مكتبة، اكتتاب ..الخ. بينما ليس للغة الإنجليزية أكثر من 1000 جذر لغوي، واللغة العبرية 2500 جذر لغوي، واللاتينية 700 جذر لغوي فقط، وهي اللغة الأم التي تفرعت منها اللغات الاسبانية والبرتغالية والفرنسية والايطالية. واليهود أو الحكومة الإسرائيلية تحديداً أطلقت حملة عالمية لإثبات أن العبرية هي أم اللغات وأقدمها، بينما وجد أقدم مخطوط في العالم عمره 4000 سنة ومكتوب باللغة العربية التي يمتد عمرها إلى أكثر من 8000 سنة، والدليل كذلك هذا الثراء في المفردات لنجد أن للأسد أكثر من خمسين مفردة كمثال فقط!. واللغة العربية هي من المستوى الأول لثرائها في الاشتقاق والمفردات، ثم تأتي بعدها ومنها تتفرع اللغة الآرامية وهي اللغة التي كان يتحدث بها معظم أنبياء بني إسرائيل ومنهم عيسى عليه الصلاة والسلام، ثم المؤابية والكنعانية وهي لغة الفلسطينيين القدماء، ومن هذه اللغات أتت العبرية بعد ذلك، فمن هي أم اللغات وأقدمها إلا العربية!
نقطة يجب عدم إغفالها وهي مسألة تدريس اللغة وما يتصل بها من الكتابة والخط والتعبير في التعليم العام، وهي أنه ينبغي تبسيط قواعدها وتدريسها بطرق غير تقليدية مثل دمجها في المسرح المدرسي مثلاً، وترك طريقة الحفظ وإبدالها بالتذوق اللغوي والأدبي لجمالياتها ومفرداتها. كما أن الالتفات إلى القنوات الإعلامية المرئية والمسموعة وتدريب المذيعين والمذيعات وتجويد أسلوبهم لغوياً مسألة مهمة للغاية، لأن اللغة هوية حضارية وليست مجرد لسان، طابت أوقاتكم.