اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
من الواضح أن فوضى ما يعرف بالربيع العربي فعلت مفعولها وجعلت التدخل في شؤون الدول العربية متاحاً بالنسبة للدول الجوار المتربصة التي استغلت الأحداث وتداعياتها بما يخدم تحقيق أهدافها، كما يظهر ذلك الاستغلال من تحّول النظام التركي من التدخل عبر الأدوات الناعمة والعمل المقنّع إلى استخدام القوة الخشنة والعمل السافر عن طريق التدخل المباشر والقيام بعمليات عسكرية في كل من سوريا والعراق وليبيا بشكل كشف عن أهداف هذا النظام ونواياه المبيتة ضد الدول العربية.
وهاجس استعادة المجد العثماني المغلف بغلاف ديني الذي يدور في مخيلة النظام التركي، والتنظيم الإخواني الذي يغذي هذا الهاجس في أكثر من مكان، وكذلك ثورات الربيع العربي، وطبيعة التجاور والأطماع التركية في مصادر الطاقة وثروات الوطن العربي وموارده الطبيعية، علاوة على ابتعاد تركيا عن الاتحاد الأوروبي واتساع الشقة بينها وبين الانضمام إليه، وما تشهده المنطقة من تمدد النفوذ الإيراني والمتغيرات الإقليمية والدولية، كل هذه العوامل شجعت النظام الحاكم في تركيا، وفتحت الباب على مصراعيه أمامه لاستغلال الموقف والتحرك لتنفيذ مشروعه القومي على حساب جواره العربي الذي ينظر هذا النظام إلى أهمية موقعه وثرواته الاقتصادية بعين، وينظر بالعين الأخرى إلى أنه يشكل الحلقة الأضعف في سلسلة الحلقات التي تحول بينه وبين استعادة شيء من مجده الغابر.
ورغم أن التدخلات التركية في شؤون العالم العربي ومحاولات هؤلاء القوم في الاستيلاء على ثرواته الاقتصادية وموارده الطبيعة لم تكن جديدة، إلا أن التطلع التركي نحو المنطقة العربية نحا منحاً جديداً مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، حيث يحاول هذا الحزب إحياء الدور العثماني والأديولوجية ذات الطابع الإسلامي وإحلالها محل العلمانية، متطلعاً من خلال ذلك إلى الهيمنة وامتداد النفوذ في الجوار العربي، متخذاً من تنظيم الإخوان والنظام القطري أدوات لتنفيذ المشروع التركي الذي يحاول الأتراك عن طريقه اختراق المجتمعات العربية ونشر الفوضى داخلها، توطئة لتحقيق أهداف قومية تركية والحصول على أطماع ومكاسب جيوسياسية.
وتطور المشروع التركي بهذه السرعة، وتبلور الهاجس العثماني عند النظام الحاكم لم ينشأ ذلك من فراغ بل أتى نتيجة طبيعية لانتهاج هذا النظام سياسة ذات طابع إسلامي أضفت عليه شيئاً من القبول عند الكثير من السذج وأصحاب الأهواء والمغرر بهم في الوقت الذي ابتعد فيه بعض العرب عن دينهم، وفقدوا هويتهم بسبب ما تعانيه الأمة العربية من التشرذم والتمزق والاختراقات الأجنبية المعادية التي أضرت بالنسيج الاجتماعي والوطني لهذه الأمة، منعكساً ضررها على انتماءاتها الدينية والقومية والوطنية.
وانطلق النظام التركي مستهلاً الترويج لمشروعه من منطلقات تاريخية ودينية وسياسية واقتصادية بحيث يرجع المنطلق التاريخي إلى ما يربط تركيا مع العرب من روابط تاريخية منذ العصر العثماني، كما أن المنطلق الديني يستند إلى أن المذهب السني الذي يعتنقه الأتراك هو المذهب السائد في جميع الدول العربية، وعلى الصعيد السياسي فإن هذا النظام يقدم نفسه كحالة سياسية يتم المزج فيها بين النموذج السياسي العلماني الذي ينطلق من قاعدة إسلامية معتدلة، ينفسح معها المجال إلى ضبط العلاقة بين الدين والسياسة بعيداً عن التوترات والاضطرابات السياسية التي تحدث في غياب الوسطية والاعتدال الديني.
وإذا ما اعتبرنا المنطلقات السابقة تدور في محيط استخدام القوة الناعمة والانفتاح على الدول العربية لخداعها وتخديرها ريثما يحين الوقت المناسب، فإن سيطرة الأتراك على منابع الأنهار التي تعتمد عليها الحياة في الدول العربية المجاورة لها، والطمع في مصادر الطاقة من النفط والغاز التي تمتلكها هذه الدول بالإضافة إلى الإرث التاريخي الذي يدعيه الأتراك في الوطن العربي، والمطامع الجيوسياسية للنظام التركي، كل ذلك يجعل العلاقة بين تركيا والدول العربية تتأرجح بين المد والجزر، منذرة بحدوث ما هو أسوأ، حيث إن المساومة على المياه ذات المنابع التركية، والطمع في النفط والغاز في الأراضي العربية، مضافاً إلى ذلك طبيعة التجاور والحلم العثماني، تكشف هذه الأمور مجتمعة مدى تربص الجار التركي بجواره العربي انتظاراً للفرصة التي يحين فيها الانقضاض، كما حصل بعد أحداث ما يعرف بالربيع العربي، حيث وجد أردوغان في هذه الأحداث فرصته المناسبة لبلوغ أحلامه وتحقيق أهدافه في الوطن العربي، مستفيداً من تنظيم الاخوان وأوراق المساومة التي يمتلكها في سوريا وليبيا وقطر والعراق.
وبعد الأحداث التي عصفت ببعض الدول العربية انكشف المستور وظهر أردوغان على حقيقته كألد أعداء الأمة العربية، متبنياً مشروعاً تدميرياً يفوق المشروعين الإسرائيلي والإيراني اللذين يجمع بينه وبين أصحابها قواسم مشتركة ومصالح متقاطعة، دفعت بهم إلى التربص بالمنطقة للإطباق عليها من كل حدب وصوب متى ما سنحت الفرصة، فضلاً عن أن المشاريع الثلاثة تشكل أهم الأدوات التي سخرتها قوى الاستعمار لتقسيم الوطن العربي وفقاً لنظرية الشرق الأوسط الجديد مع تحديد الأطراف المنفذة والدور المطلوب من هذه الأطراف حيث تجري أحداث هذا الدور على ثلاثة محاور تتمثل في إطلاق يد كل من تركيا وإسرائيل وإيران في المنطقة العربية.
ولا يشك عاقل في أن التخطيط لمشاريع تقسيم المنطقة العربية إلى كيانات صغيرة، تم من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية وإسرائيل مع وجود بعض القوى المتربصة والنظم العربية العميلة التي نفذت جزءاً من المهمة، والربيع العربي لعب دوراً كبيراً في بلورة المشروع، كما أصبحت إسرائيل بسببه قاب قوسين أو أدنى من تحقيق حلمها بإنشاء دولة اليهود الكبرى وهيمنتها على دول المنطقة.
والمشروع التركي يتجاوز في خطورته المشروع الإيراني من حيث إثارة القلاقل في الدول العربية إلى الحد الذي جعله يأخذ طابعاً تخريبياً، نظراً لأن الهاجس العثماني دفع النظام التركي إلى إقامة تحالفات مع تنظيم الإخوان المسلمين الذي بقدر ما تدعمه تركيا وتحافظ على علاقتها معه، بقدر ما تجد فيه الظهير المساند لها في أكثر من دولة عربية، علاوة على أن الدول التي اقحمت تركيا نفسها بالتدخل في الصراع القائم فيها كان لهذا التدخل تأثيره في أن زيّن لها الدخول في علاقات مشبوهة مع تنظيمات إرهابية مثل داعش والقاعدة.