عبدالرحمن الحبيب
يُظهر رسم كاريكاتوري فرنسي من القرن الثامن عشر شخصيتين شريرتين تطاردان الأطفال بحقنة للتطعيم، ويسحبون وراءهم وحشًا أخضر مليئاً بالجدري. كان ذلك أثناء تطبيق التطعيمات البدائية في أوروبا؛ وتفاقم الأمر عام 1796 بعد نجاح الاختبارات التي أجراها الطبيب الإنجليزي إدوارد جينر لاستخدام جدري البقر للوقاية من مرض الجدري. بل إنه تأسس اتحاد ليستر المناهض للقاحات عام 1869، لكن هذا التوجه لم يتبلور إلا عام 1877، وكانت المفارقة أنه خرج من مؤسسة طبية.. وفي أواخر القرن التاسع عشر، خرج عشرات الآلاف إلى الشوارع احتجاجاً على فرض لقاحات ضد مرض الجدري، قوبلت باعتقالات وغرامات وأحكام بالسجن.
الأسباب الرئيسة آنذاك كانت إما دينية بزعم أن ذلك يعد تدخلاً في الإرادة الإلهية؛ أو لأسباب صحية باعتبار أن اللقاح ضار يسبب تشوهات جسدية مثل نمو قرون لهم! أو سياسية ضد إلزامية التطعيم بزعم معارضته للحرية الفردية. الآن نواجه شكوكاً متفرقة في أنحاء العالم لأسباب أخرى أهمها التشكيك الجنوني بمطامع شركات الأدوية الكبرى ومن يتعاون معها من الأطباء والحكومات، في دائرة سرية هدفها الربح. كما أن هناك من لديهم وسواس قهري بالنظافة وعدم التلوث الكيماوي يخشون دخول مواد غير طبيعية (كائنات غريبة) تحقن في أجسامهم..
هناك، أيضاً، عشاق نظرية المؤامرة الذين أبدعوا خيالات يصعب ألا يضحك المرء منها، مثل الفيديو المنتشر لروبرت إف كينيدي جونيور، يقول إن اللقاحات التي تحتوي على الزئبق يتم شحنها إلى المجتمعات التي يغلب عليها السود، نشره موقع مضاد للتطعيم.. ومثل نظريات العقل المدبر حول رغبة بيل جيتس في إدخال رقائق في كل شخص لتتبعه..
بطبيعة الحال من حق الناس إثارة التساؤل حول أخلاقيات بعض شركات الأدوية وبعض الإجراءات، إلا أن ذلك لا يعني أنهم يريدون وضع شريحة في دماغك. ومن حق الناس أن تتساءل بحرص عن مكونات اللقاحات للاطمئنان، رغم الاختبارات الدقيقة التي تظهر أن اللقاح مطمئن وآمن.. ومن الطبيعي في بداية الأمر أن تظهر بعض الشكوك..
قال أقل من ثلثي الأمريكيين إنهم مهتمون بالحصول على لقاح لفيروس كورونا، وقال حوالي نصفهم إنهم يخططون للحصول على اللقاح عندما يصبح متاحًا (موقع أتلانتك). يعتقد واحد من كل ثلاثة فرنسيين أن اللقاحات بشكل عام غير آمنة، وهو أعلى رقم لأي بلد أوروبي (ويلكوم ترست الخيرية). فرنسا ليست وحدها، ففي إيطاليا، فازت حركة النجوم الخمس بالسلطة جزئيًا بسبب تخوفهم الشديد بشأن اللقاحات (مجلة إيكونيميست). كما أن مثل هذا الهراء الخطير حسب تعبير المجلة لا يقتصر على أوروبا الغربية، فأكثر من 40 في المائة من الأشخاص في بولندا والمجر قالوا إنهم سيرفضون اللقاح إذا عرض عليهم.. كيف أصبحت أوروبا بوتقة السذاجة؟ تتساءل الإيكونيميست.
حسب التجارب السابقة فإن الغالبية العظمى من المعارضين للتطعيم سيدركون سريعاً مدى فائدته وسيقومون به طوع أنفسهم، بل إن كثيراً من المنظمات المعارضة للقاح في الغرب أخذوا بالتنافس للحصول عليه، وفي إقناع مؤيديهم من الحركات الشعبوية بأهمية التطعيم، لأن فظاعة الوباء واحتمال وقفه قد يصدمهم ويعودون إلى رشدهم. لذا، يقول جوناثان بيرمان، مؤلف كتاب «مناهضو التطعيم: كيف تتحدى معلومات مضللة»، إن نقص العرض، وليس نقص الطلب، يمثل مشكلة أكبر للحكومات التي تنظم التطعيمات في الأشهر المقبلة.
تطرح الإيكونيميست مثالاً بحركة الخمس نجوم، وهي جزء من الائتلاف الحاكم في إيطاليا، التي أثارت بقوة الخوف من اللقاحات أثناء وجودها في المعارضة. قال بيب جريللو، الممثل الكوميدي السابق الذي شارك في تأسيس الحزب، إن اللقاحات الإلزامية كانت «هدية لشركات الأدوية الكبرى». لكن عندما صارت الحركة في الحكومة، اصطدمت نظريات المؤامرة بالواقع، فقد أدى تفشي مرض الحصبة إلى إدخال إجراءات صارمة كان الحزب قد عارضها سابقاً. لا تترجم الحملات الشعوبية بشكل جيد إلى المشكلات الفعلية للحكومة، بل إنه من المرجح أن يدعم مؤيدو الخمس نجوم فكرة لقاح كوفيد - 19 أكثر من الإيطالي العادي!
أعلنت منظمة الصحة العالمية عام 2019 أن «التردد في تلقي اللقاحات» من بين أكثر عشرة أخطار تواجه الصحة العالمية، لكن جنون الشك (بارانويا) ونظرية المؤامرة الخيالية ستظل موجودة دائماً لأسباب عديدة. إلا أن إقناع مناهضي اللقاح بأنه آمن وفعال سيكون مهمة شائكة ومعقدة، يقول الخبراء إنه لا يوجد نهج مفضل على غيره، فالأسباب مختلفة ومواجهتها متعددة، منها عدم ثقة البعض بالإجراءات، ومنها عدم اقتناعهم بخطورة المرض. ينقسم الخبراء حول ما إذا كان من الأفضل محاولة تغيير عقول معارضي التطعيم بشأن اللقاحات أو دفعهم للتطعيم على أي حال، دون القلق بشأن شعورهم (أتلانتك).
من الحلول المفضلة التي يقترحها الخبراء هو أن تطرح الحكومات برامج التطعيم لفيروس كوفيد - 19 بسلاسة مع وضوح الإجراءات وتبيان فعالية اللقاح وآثاره الجانبية، ومنع تلاعب الشركات.. وإقناع مناهضي التطعيم عبر سرد قصص حقيقية للمصابين أو عرض تجارب حية وليس الاكتفاء بلغة الأرقام؛ وقد يكون من المفيد الاستماع إلى الأشخاص الذين تحولوا بالفعل من المعسكر المضاد للقاح إلى المؤيد له (زاكاري هورن، أستاذ علم النفس بجامعة أريزونا).