د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
احتفى العالم معنا بيوم اللغة العربية في الثامن عشر من شهر ديسمبر الجاري. والاحتفاء بالعربية بات مشروعًا سنويًّا، أشبع مرابعها بأوسمة تؤكد الاعتزاز؛ فهي لغة ما يقرب من أربعمائة مليون من العرب، ويتعبد بها أكثر من مليار مسلم، ونزل بها القرآن الكريم، ووسعته لفظًا وغاية! كما اتسعت اللغة العربية للتشريع الإسلامي، أصوله وفروعه. وتحوي اللغة العربية معملاً ذاتياً من الخصوبة والمرونة والاشتقاق والتضاد والترادف والاستعارات والكنايات والمجازات والقياس، وكثيرًا من البوابات المرنة المنقادة؛ بما يجعلها تتسع لكل جديد، وتستقبل كل وافد في مجالَي التعريب والترجمة؛ فهي لغة مدنية، وحضارة حملتْ إلى العالم من تراث الإنسانية أجلَّهُ وأكمله، وأحلتْ العرب الصدارة بين الأمم فكانوا معلمين وروادًا!
وواقع اللغة حتمًا تحكمه مستجدات الواقع المُعاش للناطقين بها؛ فلا بدَّ من الولوج إلى أعماق لغتنا الخالدة؛ لنتمكن من التفكير بطرائق استثمارها معرفيًّا واقتصاديًّا؛ فمازلنا نتساءل ما الذي يمكن عمله لصياغة التأثير المقبول استباقًا للتأثير المحتمل للغتنا الأم، لغة ديننا وعقيدتنا، حتى تصبح وسيلة تواصل من أجل تأصيل الهوية، ووسيلة تواصل من أجل التنمية، ووسيلة تواصل من أجل الفن القولي الجميل المقنع، ووسيلة تواصل لإبراز الفنون المبهرة، ووسيلة تواصل مجزية مع غير الناطقين بها؛ ليسترفدوا جانبها! وحتى لا يستبد بي الحنين إلى خيمة (الأصمعي)، ورواق (سيبويه)، وخصائص (ابن جنّي)، والصناعتين عند (أبي هلال العسكري)، فلا بد من الاستثمار اليوم في تطوير التلقي اللغوي؛ فيلزمنا الاستثمار في تعصير اللغة العربية لكون ذاك استثمارًا لبناء مستقبل الأجيال؛ فالشعوب بلغاتها! فتلكم دعوة لعلماء اللغة وأساطينها لتبني مشاريع علمية من أجل إلحاق اللغة العربية بركب حياة أجيال اليوم. وأجزم أن الحاجة ملزمة اليوم إلى صياغة مفهوم جديد لمناهج اللغة العربية التعليمية من خلال لجان متخصصة، تهتم بالنص التعليمي، وتأصيل المفهوم اللغوي من خلال ترقية التأليف في علوم اللغة، وتعزيز مكانة المنتج اللغوي العربي ووظيفته في الذهن والذائقة لدعم النشء بمواد قرائية نافذة, وتحويل المنتج القرائي إلى برمجيات إلكترونية، تناسب واقع العصر. ولي في التكنولوجيا القرائية وقفة؛ إذ إن الفرضيات الرقمية تضبط شروط استعمال الأبنية اللغوية، وقد تقصر عن أبصار شروط استخدام اللغة. وأنا لستُ مع قرطسة الواقع ثم الحكم عليه؛ فالمعجم المتوافر تقنيًّا أمام النشء في واقع اليوم يحيطه قدر كبير من الانغلاق وصعوبة الفهم للمعنى والدلالة، كما تشوبه ركاكة في التركيب, وتبديل وإنزال بعض الألفاظ في غير مواضعها؛ وقد يُفاجَأ المطلع بتوليد بعض المفردات تعسفًا للإتمام فحسب! فلا بدّ من مراجعة وتمحيص للمحتويات! كما أنه لا يمكن للمتعلمين - خاصة في مراحل التأسيس - أن يتآلفوا مع الدلالات الثقافية الحديثة إلا إذا كانت بيئتهم التقنية وافرة ومحفزة؛ فكما نعلم إن الواقع جعل لمفردات الثقافة في تكنولوجيا المعلومات مسميات حديثة.
ثم إن اللسان العربي قائم على صوت الحرف, وتحكمهُ قواعد اللغة. وبساط أولئك المتعلمين أرض قاحلة في واقعهم؛ فالقواعد في لغة التقنية تنتج ثم تستخدم, أما قواعد النحو فتستخدم ثم تستخلص منها القاعدة, والأخيرة أوضح عند النشء الذين يسمعون العربية منذ ولادتهم من أفواه المحيطين.
وإن ركزنا القول في المقررات التدريسية للغة العربية المنفذة في التعليم العام فلا يمكن اتساقها مع أهدافنا لتأصيل اللغة العربية إلا إذا ظهرت الكلمات مشابهة للأشياء؛ إذ يقرنُها فكر المتعلم في تلك المراحل عندما تكون علامات مرئية، تشير إلى كلمات, أو تحيط بواقع ممارس؛ لأن واقع المقررات الحديثة واقعٌ يخلو من الشبه البيئي والمجتمعي, ومن الخيال النامي المؤصل للقراءة الناقدة الإبداعية. وحتى تتحوّل تلك المقررات إلى بيوت أكثر اتساعًا بدلاً من ضيق الأفق، وبُعد المشاهدة التي تغلفها إلا من نزر يسير من المقتطفات، فلا بدّ من حزم ذلك الرأي المتواضع، وإحاطته بالعنق، وإثراء ميادين اللغة بالمرجعيات الصوابية التي تقود الألسنة إلى الاستقامة في القول والكتابة.
وبلادنا اليوم شكّلت سلطة ثقافية جديدة، تحملها وزارة جادة، ترى الهوية اللغوية شكلاً اجتماعيًّا ثابتًا، لا بد من احترامه وإشعال أنواره. ونأمل أن تتبنى الوزارة مشروعًا لدراسة التعرض اللغوي في مخرجات الواقع اللغوي الاجتماعي؛ فمراقبة المدخلات يحقق بناء كفايات لغوية تداولية، تقترب من الفصحى حتى لا تنشطر ألسنة الناس وهم يقرؤون القرآن بلسان عربي مبين!! ولعل الجامعات تشاطر وزارة الثقافة ذلك المشروع!
كما نأمل أن تحظى اللغة العربية بوثيقة وطنية معتمدة، تحدد أدوار مؤسسات الدولة نحو اللغة الوطنية؛ فلو كان للعربية في كل وزارة ومؤسسة صديق لما استوحشتْ!!؟ كما أن الترجمة باب ولود بصير، لو طرقناه لتمتين علاقة العلوم الحديثة بالعربية، ولو اقتحمنا أسوار الاشتقاق والتعريب ونحت المصطلحات، لكانت غِزارًا!
وكل ذلك يجعلنا نتذكر أنّ الحضارات هي من تعكس بريقها على محيط أصحابها وألسنتهم, وصواب نطقهم، إلا أن اللغة العربية هي من عكست بريقها على حضارتنا الممتدة!