ما يُسمى بـ«التعديل» الجيني هو قفزة علمية هائلة دون شك. فهو يحقق كميات من الإنتاج «تؤمّن» غذاءً لكل البشر مهما تزايدت أعدادهم، بل و»تؤمن» أعلافاً للحيوانات المدجنة لـ«تأمين» كميات كافية من اللحوم والبيوض والألبان ... إلخ. وهذا معناه أن «التعديل الوراثي» يحقق «الأمن الغذائي» العالمي.
غير أن مصطلح «الأمن الغذائي» لا يعني تحقيق كميات أكبر من المواد الغذائية وحسب، إنما يعني نوعية أفضل، أو على الأقل الحفاظ على النوعية المتوفرة! ومن أجل ذلك لا بد من وجود «رقابة» على استخدام التطور العلمي أياً كان نوعه. فالهدف شكلياً من ركوب صهوة العلم؛ والانطلاق بتسارع مطرد؛ هو استمرارية حياة البشر! وليس تحقيق «الأرباح»! أما عملياً فهو العكس! وهو ما نراه بأم أعيننا عندما نشتري المنتجات! فأنت تجد التفاحة في السوق ممتلئة وناظرة؛ وكأنها خدود الغواني؛ وعندما تقطعها في البيت لتأكل؛ تجد فيها أماكن هشة؛ وأخرى خشنة وذات ألياف؛ وكانها أورام والعياذ بالله! وتكتشف في نهاية المطاف أنك مخدوع!
الخداع لا يخص التفاح فقط، بل كل المنتجات «المعدلة» وراثياً، فهل هو تعديل أم اعوجاج؟ وهل الذنب يقع على العلم أم على من يستخدم العلم؟ وإذا كانت الحضارة الإنسانية، التي انطلقت منذ 12 ألف سنة تقريباً، كان هدفها الأول هو إنقاذ البشرية من الهلاك، أو ما نسميه في عصرنا «الأمن الغذائي»؛ بواسطة صناعة البشر لغذائهم بأنفسهم؛ بدل الاعتماد على الصيد؛ فهل تَغَيّرَ هدف الحضارة ذاك؟ أم أن من تغير هو المؤتمن على الأمن العذائي؟ ألم يكن في بداية الحضارة من هو مؤتمن على الأمن الغذائي؟ ولماذا كان المؤتمن في بداية الحضارة، لا يحتاج لقوانين كي يكون أميناً؟ فالقانون لم يظهر إلا قبل 5 آلاف سنة تقريباً! أي ليس من بداية الحضارة!
الإجابة على هذه الأسئلة ليس سهلاً، وليس صعباً أيضاً! فما وحّد البشر وجعلهم يخوضون تجربة صناعة الغذاء هو خوفهم من الهلاك. وتلك التجربة اعتمدت بالأساس على أن تفادي الهلاك، لا يكون إلا بالاعتراف بأن العمل الجماعي لصناعة الغذاء هو المنقذ. وهذا النوع من العمل يتطلب نبذ البربرية والإبادات الجماعية والاعتراف بحقي وحق كل من يعمل معي بـ«الأكل»! ... نعم كانت الأخلاق ليست اختيارية، بل ملزمة لصانع الغذاء والمؤتمن عليه من ذواتهم! ونسجت على هذا أساطير الأولين! فقد كان «جلجامش» ملكاً، وغامر بحياته من أجل الحصول على شجرة الخلد كي يبقي هذا الإنجاز المسمى «حضارة» خالداً إلى الأبد! وقد فعل ذلك فعلاً عندما اكتشف أن «الخلود» لا يكمن بالشجرة، إنما بالعمل والعيش المشترك! وأن الإنسان يخلّد بعمله المبني على الأخلاق!
لقد تطلب الأمر 7 آلاف سنة تقريباً؛ منذ بداية الحضارة؛ حتى ظهور ما يسمى «قانون»! ... فما هو القانون؟ ... القانون هو اتفاق مكتوب بين أفراد المجتمع للإلتزام الجبري بالأخلاق! ولم يكن ظهوره عبثاً؛ فالذي تسبب باضمحلال الأخلاق وانعدام «العدالة» الاجتماعية هو الاستحواذ على الثروة! وقد تطلب القانون نشوء مؤسسات تنفيذية وقضائية وفلسفية وأسطورية ... إلخ لتفعيله. وتلك المؤسسات مستمرّة بالتطور. وهي بتطورها خرجت من الجغرافيا لتصبح عالمية! ولكن «قوانين» و«قرارات» المؤسسات العالمية ليست ذات جدوى بدون تنفيذ. ووصل العالم الآن إلى مفترق طرق: إما العودة للبربرية والإبادة الجماعية والحروب المصيرية، أو نظام عالمي جديد يحقق الحد الأدنى من «العدالة الاجتماعية» للحفاظ على حياة البشر.
من المؤسسات العالمية الجديدة نسبياً هي مجموعة العشرين. وهي باعتقادي الشخصى المؤسسة العالمية الأقوى من الأمم المتحدة ومشتقاتها. فهي مجموعة الدول المهيمنة على الإقتصاد العالمي. والاقتصاد أمضى سلاحاً من السيف. وكان شعار قمة العشرين في اليابان هو»عدم التصادم واللجوء للتفاهم»! وبالرغم من عدم تحقيق إلا الجزء اليسير منه، إلا أنه إثبات أن لا مجال لنفي «الآخر». أما قمة العشرين بالرياض مؤخراً فقد كان ولازال شعارها هو « تفادي الانهيار الاقتصادي العالمي»! وهذا معناه أن العالم إذا استمر بدق طبول الحرب وعدم التفاهم، فالنهاية هي العودة للبربرية والهلاك الجماعي. ولا من مهرب إلا العودة للعقلانية والأخلاق.
** **
- د. عادل العلي