يطوف عبدالعزيز بركة ساكن المراعي والوديان والقرى بقوافل أوراقه وحبره ليروي للعالم عن «دارفوره وكردفانه» ونيله الذي أحب، عن ذلك التراب الذي يذوب في دمه، عن الحقول وأغصان القمح الفاتنة وأغنيات الخريف، وعن حكايات اتخذها ذريعة لقول وكتابة ما لا يقال علنًا، وراح ينظم بها سيرة وتاريخ هذه البقعة الأفريقية وإنسانها البائس وكأنّه يقول إنها لعنة أُصِيبْ بها وليس لها علاج، يكتب عن ألم إنسانها وحزنه ونزواته وحلمه. يستحضر بركة ساكن في كتاباته كل عذابات التُّعساء في بلاده وقارته فيمنحهم أسماءً وألقابًا وتواريخ وقصصًا وحكايات، ينقل الواقع المُرَّ تارة بمباهج وطقوس مرتبطة بالأرض وقسوة الحياة، وتارة بالإنسان والحلم في مواسم الحصاد المهدور. يكتب عن الدجل والدجالين والسحرة والمشعوذين، عن أولئك البائسين والمستعبدين والمقهورين، عن أغلال العبودية وعصافير الحرية، وعن الظالمين والانتهازيين والجبارين، عن الحالمين والأساطير والذين أدمنوا الشَّهوات والملذات وباعوا من أجلها كفاحهم وكدهم بثمن بخس.
في رواية (الجَنْقُو) مسامير الأرض، الفائزة مؤخرًا نسختها المترجمة للفرنسية بجائزة (الأدب العربي) في فرنسا، يرسم بركة ساكن تضاريس الأرض وقد نهشتها خطوات العابرين إلى الحقول، وكأنهم عمالقة تهتز الأرض تحت أقدامهم، فيصف الجَنْقُو شعبًا ملامحهم متشابهة، وكأن سلوكهم هو استنساخ للصفات نفسها، ينشدون الأناشيد ذاتها، ويعبرون الدروب نفسها صباحًا ويحلمون الحلم ذاته.
يرتدون ملابس عجيبة ومتسخة وقد لونتها الشمس بعرقهم ورائحة التربة، وأن هذه الملامح تكفي وصفًا على أن تعكس حشد الصراع مع المكان، وتبدل الفصول، من أجل انتظار الحصاد الذي ينتظرونه بالكد والجهد. وعند الحصاد، آخر الموسم يغنون ويرقصون كالغربان قفزًا، ويشربون حتى طلوع فجر صباح اليوم التالي.. في هذه الرواية، نكتشف ظلم المسؤول، وجشعه، وكيف أن ظلال أغصان الحقول والأشجار كانت تخفي وتستر عادات، وتقاليد موروثة، فتأتي حكايات بركة ساكن لتعرِّيها، وتكشف السِّتار عن واقع لم يستطع أن يتوارى إلا أمدًا مؤجلاً.
** **
- علي يوسف ماريل