لم ينكر العرب قبل الإسلام الموت لأنه واقع ملموس يشاهدونه بأم أعينهم.. يدفنون موتاهم بأيديهم، ويبكونهم بعيونهم.
وفهم لبيد بن ربيعة العامري أن الموت لا يستثني أحدًا حتى الملوك:
أولم تريْ أن الحوادث أهلكت
إرما ورامت حميرا بعظيم
لو كان حي في الحياة مخلدا
في الدهر ألفاه أبو يكسوم
والحارثان كلاهما ومحرق
والتُّبعان وفارس اليحموم
والصعب ذو القرنين أصبح ثاويا
بالحنو في جدث - أميمَ - مقيم
ونزعن من داوود أحسن صُنعه
ولقد يکون بقوة ونعيم
صنع الحديد لحفظه أسراده
لينال طول العيش غير مروم
وفهم امرؤ القيس أن الموت لن يتركه مادام قد طال الناس العظماء المتقدمين:
ألم يحزنك أن الدهر غول
ختور العهد يلتهم الرجالا
أزال من المصانع ذا نواس
وقد ملك الحزونة والرمالا
وأنشب في المهالب ذا خليل
وللزراد قد نصب الحبالا
وفجَّع كندة الأخيار طرًّا
بعمرو واصطفى حجرا فزالا
أبعد شنوءة الأبطال أرجو
ليان العيش أو أبغي احتيالا
فإن تك دار آل الأزد زالت
فكل الناس ينتظر الزوالا
وقد اختصر القضية كعب بن زهير في بيت واحد حين قال:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
يوما على آلة حدباء محمول
لكن ما أقلقهم هو معرفته متى سيأتي الموت؟ فهم زهير بن أبي سلمى أن الموت يسير خبط عشواء، فمنهم من يصيبه، ومنهم من يبقيه للأسقام والسأم:
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم
وفهم طرفة بن العبد أن كل حي في رقبته حبل، والموت ممسك بهذا الحبل، فمتى أراد جذب الحبل إليه:
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى
لكالطول المرخى وثنياه باليد
والفكرة نفسها يؤمن بها عبيد بن الأبرص:
وللمرء أيام تعد وقد رعت
حبال المنايا للفتى كل مرصد
منيته تجري لوقت وقصره
ملاقاتها يوما على غير موعد
فمن لم يمت في اليوم لا بد أنه
سيعلقه حبل المنية في غد
وأثار مصير الإنسان بعد الموت تفكير العربي؛ الموتُ انطفاء لشعلة الحياة وانحلال للجسد إلى الأبد؟ أم نقلة إلى حياة أخرى؟ وكيف ستكون حياته في العالم الثاني؟ هل يعيش عيشة راضية مطمئنة؟ أم شقية تعسة؟
لم يكن كثير من الجاهليين يؤمنون بالبعث كما يتبين ذلك من قوله تعالى: {وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (29 سورة الأنعام)، ولذلك شَكَّل ما بعد الموت مصدرًا لمخاوفهم على نقيض المسلم الذي يتقبل الموت بنفس مطمئنة لأنه يعرف أن ثمة حياة أخرى تنتظره.
وحين أدرك طرفة أن الحياة كنز كل يوم ينفد منه جزء، وعلم أن لائمَه لا يستطيع منحه الخلود، ولا دفع المنية عنه، قرر أن يعيش كما يحب، ويفعل ما يريحه ولا يقعد لانتظار الموت، فلا يمتنع عن خوض حرب ولا يمنع نفسه من الغوص في لذة.
وقد بيَّن طرفة ما يشجعه على البقاء حيًا، ولخصه في ثلاثة أمور هي: التبكير للخمرة، ونجدة المستغيث، والاستمتاع بفتاة في يوم غائم، فقال:
ألا أيهذا اللائمي أشهد الوغى
وأن أنهل اللذات هل أنت مخلدي؟
فإن كنت لا تسطيع دفع منيتي
فدعني أبادرها بما ملكت يدي
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتي
وجدِّك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبق العاذلات بشربة
كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وكري إذا نادى المضاف محنبا
سيد الغضي - نبهتهُ - المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب
ببهكنة تحت الطراف المعمد
فليس اتجاه طرفة إلى الارتواء المادي اتجاهًا عبثياً أو عابثًا، بدافع من المجون واللهو؛ بل اتجاه أفرزه تأمل عميق في طبيعة الحياة وكينونتها. إذ لم يكن طرفة سادرًا في لهوه دائمًا فهو يقضي عمره بين جد ولهو، فتارة حاضر في منتدى قومه، وتارة في خمارات الديار. ويشاطره في السير على هذا المنهج الأعشى الذي يقول:
إن الأحامرة الثلاثة أهلكت
مالي وكنت بها قديما مولعا
الخمر واللحم السمين وأطَّلي
بالزعفران فلن أزال مبقعا
لقد وجد هؤلاء أن الموت سيغتال أجسادهم وستختفي دون رجعة، وأن الخمر والمرأة هما مصدر المتعة واللذة، الذي يلبي شيئًا من شهوات الجسد، فأرادوا تعويض الجسد الفاني قبل أن يداهمه الموت.
في حين وجد غيرهم كحاتم الطائي مصدرًا آخر لإسعاد نفسه، وهو إنفاق المال فيما يجلب له الذكر الحسن بعد رحيله؛ من إكرام ضيف وإعانة محتاج:
أماوي إن المال غاد ورائح
ويبقى من المال الأحاديث والذكر
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى
إذا حشرجت نفس وضاق بها الصدر
** **
- سعد عبدالله الغريبي