في جوٍّ مفعم بالشجن سافر يوم الأربعاء 10 من جمادى الأولى عام 1419هـ إلى العمرة، ومعه والدته، وأخته وأطفالها، فور انتهاء عدتها بعد وفاة زوجها، الذي فارقها في أواخر الأربعين من عمره، وأطفالها صغار، أكبرهم لم يجاوز الثامنة، سافروا إلى العمرة لتتخفَّفَ من ألم الفقد، وتَتَزوَّد من يقين الطمأنينة، متوسلة بالدعاء للفقيد، والصلاح للأبناء، وتعويضهم خيرًا.
لم يكن ليتحمل مسؤولية السفر بالأطفال، وهو في بواكير شبابه، لولا أن أمهم امرأة عن ألف رجل، قوة وصبرًا، ورأيًا وحكمة، مع الرحمة التي تمنحها طبيعة وجبلة، وخاصة بعد اليتم، فكم يجلب الضعف من العطف، وكم يهب الألم من الرحمة.
ومع الرحمة التي جللت الرحلة، والابتسامات التي ارتسمت لتدخل السرور على الأطفال، ظل الشاب متوترًا قلقًا، خوفًا من كلمة تفرط، أو تصرف يند، يجرح مشاعر الأطفال، أو يؤذي أمهم، وهي أخته التي يكن لها الحب مع الاحترام والهيبة، فكان ضبط المشاعر من أن تَرحَمَ حتى تُشعِرَ بالضعف، أو تَزجُرَ حتى تُظهِر القسوة، هو الغاية التي يسعى لها، ويدرب نفسه عليها، ويراجع تصرفاته وفقها، ويُسائل نفسه: هل أخطأ هنا، أو أهمل هناك؟ ماذا يجب أن يقول عند ذا؟ وماذا يجب أن يفعل إذ ذاك؟
كانت عيون الأطفال أساس ضعفه، وابتسامتهم غاية نفسه، وإن تشاجروا يؤلمه انكسار المغلوب كما يسعده انتصار الغالب..
وكانت الإقامة في الشامية أمام باب العمرة، في فندق مكة، وفي زاويته مقهى صغير، وقف عنده بعد صلاة العشاء ثاني أيام الرحلة وآخرهما، لما مل انتظار أخته، فقد تأخرت بعد الصلاة، حيث رجع هو وأمه والأطفال، واستأنت هي في الحرم، حتى إذا طال الانتظار، وأخذ منه القلق كل مأخذ، جعل يدخل ويخرج، فوقف عند المقهى، لعله يشغل نفسه بما يزجي الوقت، وإذا بشاب واقف ينتظر دوره، فسلم ووقف خلفه، فرد السلام بحفاوة وابتسامة، والتفت إليه، فانتظم الحديث بينهما شيئًا فشيئًا، كان شابًّا وسيمًا أنيقًا، وفي غاية اللطف، وكمال التهذيب، ذا منطق حسن، ووجه طلق، وكان في مثل سنه، وفي مستوى دراسته، وفي يده دفتر محاضرات، دارت عجلة الحديث بسرعة، كان الدفتر سببًا لإدارتها، تعارفا، فكان شابًّا قصيميًّا من (البكيرية)، فزاد هذا التوافق ذاك الوفاق، فجلسا بعد أن كانا واقفين، ثم دخلا في بهو الفندق لما زاد الحديث حرارة وعمقًا.
لم يظهر على الشاب شيءٌ من علامات التديُّن، بل كان ظاهره يشي بضدها، وكان يشكو شيئًا في نفسه، أطلع عليه هذا الصديق الجديد، الذي عرفه لساعته، وما إسراره هذا وإطلاعه إلا لشيء يثقله، يتطلب له مخرجًا، ويتحين لذلك أوانًا، قال: أنا ملتزم (متدين)، وذو قلب خاضع لربه، معظم له، وكنت محافظًا على السنن، أظهر بمظهر التدين الذي أجده في نفسي، ولكني مصر على ذنب لم أستطع منه خلاصًا، فلم أحب أن أُرى متدينًا وأنا غير ذاك، فأنا أكره أن أكون منافقًا، وقلت في نفسي: اظهر على حقيقتك، ولا تخدع الناس بك!! فتخليت عما كنت عليه..
قال له: وتلك الطاعات الظاهرة هل تسهل عليك، أو تجد في فعلها مشقة وجهادًا؟
قال: بل تسهل علي، وأتمنى فعلها، ولا أجاهد نفسي لأجلها، ولكني تركتها خشية النفاق!
لقد كان ذلك المجلس مهيِّئًا لعلاقة طويلة وطيدة، لو تنازل الطرفان عن الصراحة، وتمسكا بعروة المجاملة، واكتفيا بالتعريض عن التصريح، وبالتمثيل عن المكاشفة، ولكن ذلك الشاب رأى المجلس متنفسًا لمكبوت شعوره، ووجد من جليسه أذنًا صاغية، وقلبًا مفتوحًا، وإقبالاً عليه بحواسه كلها، ولمس منه ما يفتح له باب الأمل، فاسترسل في بثه، وفي إفشاء خبيئة نفسه، ولعله نال شيئًا مما أفاده، فقد كان لقاءً وحيدًا لم يشفع بنظير.
لقد دار بينهما حوار طويل، حاول أن يبين له فيه معاني غائبة، وتصورات مغلوطة، حاول أن يهوِّن عليه ما استعظمه، وأن يعظِّم في نفسه ما استسهله، فترك طاعة لأجل الناس كفعلها لأجلهم، والاستتار بالمعصية سبيل إلى المعافاة منها، كما أن المجاهرة سبب إلى الحرمان من المعافاة.
إنه التصنيف الثنائي القاسي، الذي لا يعرف إلا الطرفين، ولا يعترف بطبيعة البشر، التي تركبت من الخير والشر، والقوة والضعف، والخطأ والاستقامة، من ذا الذي لا يخطئ ولا يزل ولا يُستزلّ! ولم جعل الله الجنة درجات، والنار دركات، إلا لذلك التفاضل والتمايز، وفضل الله أعظم، ورحمته وسعت كل شيء.
هذا التصنيف هو الذي يصور المعصية المستورة نفاقًا، لا يتصور صاحبه أن التقي ربما استزله الشيطان، فوقع في معصية، أو قارف خطيئة، نسي أصحاب هذا التصنيف أن الاستغفار من الذنب طاعة، «لو لم تذنِبوا لذهب اللَّهُ بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفرُ اللَّهُ لهم».
ذلك التصنيف حوَّل العلاقة بين العبد وربه إلى علاقة بينه وبين الناس، ولو سأل نفسه: ما شأن الناس بك وبتدينك؟ هل تزلفت به لمصلحة؟ أو تظاهرت به لمنال؟ لعرف أن الناس خارج الدائرة، وأن النفاق لا يرد على حالته، بل ربما كان ترك الطاعة لأجل الناس نوعًا من الشرك، كما أثر عن الفضيل بن عياض رحمه الله.
** **
أ.د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - أستاذ النحو والصرف - جامعة القصيم