«إننا نفخر بإرثنا الثقافي والتاريخي السعودي والعربي والإسلامي، وندرك أهمية المحافظة عليه لتعزيز الوحدة الوطنية وترسيخ القيم العربية والإسلامية الأصيلة. إن أرضنا عُرفت -على مرّ التاريخ- بحضاراتها العريقة وطرقها التجارية التي ربطت حضارات العالم بعضها ببعض؛ مما أكسبها تنوعًا وعمقًا ثقافيًّا فريدًا. ولذلك، سنحافظ على هويتنا الوطنية ونبرزها ونعرّف بها، وننقلها إلى أجيالنا القادمة، وذلك من خلال غرس المبادئ والقيم الوطنية، والعناية بالتنشئة الاجتماعية واللغة العربية، وإقامة المتاحف والفعاليات وتنظيم الأنشطة المعزّزة لهذا الجانب.
كما سنستمر في العمل على إحياء مواقع التراث الوطني والعربي والإسلامي والقديم وتسجيلها دوليًّا، وتمكين الجميع من الوصول إليها بوصفها شاهدًا حيًّا على إرثنا العريق وعلى دورنا الفاعل وموقعنا البارز على خريطة الحضارات الإنسانية».
تلك عبارات صدح بها ولي العهد سمو الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، في رؤيته الثاقبة (2030) عكست صدى حضارة عريقة لهذه البلاد -شرَّفها الله- لطالما نادت من يحييها ويبعثها من جديد؛ لتكون حاضرةً على مرائي الناس ومسامعهم؛ ليدركوا عمقًا حضاريًّا لهذا البلد، تضرب جذوره في تاريخ سحيق، لطالما غفلت عنه الأمم لينادي بحضوره من جديد.
استوحت تلك العبارات من ذاكرتي خلاصة كتابين وقفت عليهما، للأستاذ الكبير عبدالله الحقيل الأديب الشاعر المؤرخ الرحالة أمين عام دارة الملك عبدالعزيز الأسبق -رحمه الله-، الذي أثار حديثه في كتابيه شجونًا رسمت لوحة حضارية لجزيرة العرب، تناول فيهما جوانب شتى في التاريخ والتراث واللغة والثقافة والأدب والتربية والتعليم.
كان أولهما بعنوان: «رحلات ثقافية لبلدان عربية» خَطَّ مقدمته ابنه ماجد وزير الإسكان ووزير الشؤون البلدية والقروية المكلف، كما حوى انطباعات شتى حول رحلات ثقافية عربية اكتظت بثروة حضارية تاريخية جغرافية فكرية، استأثر فيه أدب الرحلات باهتمام كبير وحظٍ وافر، يحظى قارئه بمتعة وفائدة، ويحيط بعادات وتقاليد تلك البلاد، ويستمتع الراحل بمشاهد التاريخ ومعالم الحضارة، ومظاهر الحياة، فضلاً عن كونه سبيلاً من سبل المعرفة والثقافة الإنسانية، كما أنه معينٌ للمؤرخ والجغرافي والاجتماعي، كما قدم فيه صورًا عن بعض رحلاته إلى الوطن العربي في مُدَد متباعدة، ولمحات موجزة، قدم فيها العديد من الانطباعات والذكريات فاستهل رحلته بربوع الخليج العربي، بدأها بالكويت، فاستبعث من خلالها ذكرياتٍ ومجدًا وخُطُوبًا وتاريخًا خالدًا، روى لنا من خلالها أبيات تنفست بها قرائح شعراء لطالما تغنوا بتلك الأودية والشعاب والهضاب، والقرى، والرياض، والأطلال، ومن ذلك قول أحدهم:
يشتاق قلبي إلى نجد ويطربه
نسيم نجد إذا ما هب خفَّاقا
وأسأل البرق أحيانا فيطربني
عنهم بما يملأ الأحشاء إحراقا
إن أومض البرق نجديًّا بعثت له
سحا من الدمع مِدرارًا ومِهراقًا
كما رسم لوحة فنية رائعة في رحلته الكويتية جمعت بين عبق ماضيها، وشذا حاضرها العريق، وطَرَق فيها العديد من بلداتها؛ السالمية، وحولي، والرميثية، والصليبخات، وخيطان، والمرقاب، والفحيحيل، والشويخ، وغيرها من الأحياء والأسواق العامة والمتنزهات.
ثم أردفها بالبحرين (أوال) القديمة، تناثرت من خياله ذكريات ماضيها الخالد، إذ هي جزيرة تضرب بتاريخها في أقدم العصور، فارتحل في جزرها، وبُليداتها كالمحرق والرفاع وبعض بساتينها، والعوالي حيث مصفاة النفط، ومصنع الألومنيوم، كما زار متحفها ليرى عصورًا من التاريخ، وبدائع من التراث والفنون وآثارًا ومناظر تحكي أزمانًا طويلة وُسمت بالعزة والانتصارات؛ إذ كانت البحرين منطلق المسلمين نحو بلاد الفرس.
ثم حلق بنا في رحلاته إلى الإمارات العربية المتحدة، فارتحل إلى دبي، ورأس الخيمة، وجلفار والشارقة وعجمان وأبو ظبي وأم القيون والفجيرة، قضى بهن أيامًا، أبدى فيها ما قرت به عينه مما حفلت به تلك البلاد من تطور وعمران ومناظر طبيعية وأماكن أثرية، ومعالم ومؤسسات.
كما ارتحل في المحرم 1422هـ إلى سلطنة عمان فكشف عن مكنونها التراثي وآثارها القائمة، ونهضتها المعاصرة، فزار نزوى وقلعتها، مترنماً ببعض أبيات له:
من الرياض ومن بدر ومن أحد
جئنا لمسقط أرض المجد والأدب
ومن تكن شعلة التاريخ رائده
يكتب صحائفه بالصدق والحدب
ولنسعد اليوم بالتاريخ ندعمه
بالجد والبحث عن عزم وعن كثب
إن المؤرخ في صدق وفي ثقة
هو الحفيظ على الأمجاد والرُّتَب
حتى قال:
تحية لجميع الصحب مفعمة
بالود والحب من نزوى إلى خلب
وخلب موضع بجانب قنفذة، ثم ارتحل في رجب 1431هـ إلى صلالة فأماط اللثام عن جبالها ومتاحفها وعيونها وقلاعها وأبراجها وشواطئها وضبابها في لوحة غاية في الجمال، وعيونها وأوديتها المائية، وآثارها الإسلامية القديمة شامخة تتحدث بصمتها عن زمن العزة، وله أبيات من قصيدة طويلة يحيي بها عمان في الملتقى التاريخي لدول مجلس التعاون في مسقط في جمادى الثانية 1433هـ.
ثم سرد أيامه الثقافية على ضفاف الخليج بالكويت، وتحدث عن مؤسسة عبدالعزيز البابطين للإبداع الشعري ودورها في دعم الشعر العربي، وحضوره ملتقى الكويت الأول للشعر العربي، ساردًا أحداث الملتقى.
ولم يفته في استدعائه للملتقى السادس لجمعية التاريخ والآثار بالكويت أن يرتحل إلى أبراجها ومعالمها السياحية، ووقف على معالمها القديمة، ودار الآثار الإسلامية، ومتحف طارق رجب، والواجهة البحرية.
كما حيَّا الملتقى الشعري بالكويت بأبيات طويلة، أطلقها قلبه بفيض عذب.
وقد أفاض في كتابه هذا بقصائد جمة ألقاها في مناسبات تاريخية بدول مجلس التعاون الخليجي، مُجَنِّدًا قلمه في لَمِّ شمل هذه الأمة، إذ الشعر العربي فن العربية الأول منذ فجرها، به ترتفع الهمم وتعلو العزائم وتشمخ النفوس.
فمنها قصيدة طويلة ألقاها تحية لندوة التاريخ والآثار المنعقدة في الشارقة، وقصيدة ألقاها تحية للقاء العلمي السنوي الثامن المنعقد في المنامة لجمعية التاريخ والآثار بدول مجلس التعاون الخليجي، أبلغ فيها الكلام وأجاد، وأبان فتوته الأدبية أيَّما بيان، من فيض خاطره ووجدانه.
وقصيدة أخرى ألقاها تحية للملتقى التاريخي الحادي عشر في البحرين.
ثم ارتحل رحالتنا إلى معشوقة الشعراء اليمن السعيدة، وكان قد اطلع على كتابات مؤرخيها وأعمالهم؛ كـ»الإكليل»، و»صفة جزيرة العرب»، ليقف على أوصاف اليمن وتاريخها ومعالمها وآثارها وآدابها وشعرائها، فزارها على دعوة تلقاها من مدير جامعة صنعاء للمشاركة في أعمال الدورة الثامنة للمراكز والهيئات العلمية المهتمة بدراسات الخليج العربي والجزيرة العربية، فسار إلى صنعاء فذكر أيامها ومشاهدها وجبالها الشامخة في أبيات جميلة للشعراء الهمداني والرادعي وغيرهما، وزار دار المكتب والمخطوطات، واطلع على معالم اليمن وتاريخها ومدنها وقراها، وزار جامع صنعاء الكبير ووصفه، والسفارة السعودية هناك، كما وصف «مأرب» مدينة حضارات الدول الغابرة، «معين» و»سبأ» و»حمير»، وارتحل إلى «تعز» ذات الجمال الأخَّاذ والأصالة المعاصرة، وتغنى بأبيات الهمداني، كما زارد بلاد الأحقاف «حضرموت» ذات السفر الخالد.
كما ارتحل إلى العراق أرض الرافدين في عام 1410هـ، فزار «البصرة» و»سفوان»، فتجلت في خواطره ذكريات العلم والعلماء الذين أشرقت شمس علومهم على بلاد البشرية جمعاء، كما زار مدينة «الفاو» ووقف على آثارها ومعالمها، وزار بغداد ومتاحفها ومراكزها وسورها المعروف لتلوح له حضارات الغابرين بابليين وآشوريين وسومريين، حتى حضارة الإسلام وما حفلت به من أمجاد، وشطَّ به الخيال وكأنه يرى أمام ناظِريه أولئك الأُوَل علماء وشعراء على مقاعدهم بين يدي الخلفاء والولاة المنصور والرشيد والمأمون والمعتصم والبويهيون والسلاجقة وغيرهم، وزار «بابل» مدينة العجائب، و»سامراء» وأحياءها وطرقها وأزِقَّتها، والكوفة والنجف وكربلاء، والحلة.
وفي صيف عام 1380هـ سنحت الفرصة لعالِمُنا أن يرتحل إلى بلاد الشام «سورية ولبنان وفلسطين والأردن»، جنان الله في أرضه، ووصف جبالها ووهادها المحلاة بالخضرة النضرة، وكأننا به يَخُطُّ لنا دفاتر تاريخ تلك البلاد على عَجَل، مرَّت على طيفه مآثر البلاد والعباد، تلكم العصور الذهبية لأمتنا العريقة وفتوحاتها الإسلامية، والجامع الأموي -الذي وصفه أيَّما وصفٍ دقيق-، والقصور والمتاحف والمعارض والمدن والمصايف والمساجد والمعاهد، وابن تيمية وصلاح الدين وابن القيم، وما خطه عنها صاحب «تاريخ دمشق» ابن عساكر من عجائب أزمانِها، مترنماً بأبيات شعرائها وأدبائها.
فحطَّ رحاله في دمشق ثم راح يجول فيها فزار حي المهاجرين وأبي رمانة وسوق الحميدية وشارع بغداد وحي الربوة ثم زار آثارها كالجامع الأموي ودار الآثار وقصر العظم والمكتبة الظاهرية والجامعة والمتحف الوطني، ثم خرج منها إلى عين الفيجة وبقين وبلودان والزبداني، والجداول والأنهار والشلالات والغوطة، ودار الكتب الظاهرية والمجمع العلمي، ثم انطلق إلى لبنان ملقيًا تحية وداع إلى دمشق بأبيات له عطرات، أجاد في وصف تاريخها وحضارتها وغناء الشعراء بها، ثم حدثنا عن لبنان مسترجعًا ذكريات صراعها مع الأمم وصراع الأمم عليها، وكيف لا؟!! أليست عروس الشام، فحق لها أن ترمقها كل العيون، وراح يصف لنا حواضرها مصايف، ودور الثقافة ومكتبات، ويعددها.
ثم انطلق منها إلى الأردن فحطَّ رحاله في عمان فزار معالمها، ومنها إلى فلسطين الحبيبة ذبيحة العصور ومَوؤُودة الأمم، تلك الصخرة التي تحطمت عليها هامات طغاة الأرض، فأبت إلا النصر. فصلى الجمعة في المسجد الأقصى الذي تزاحمت ساحاته بأقدام المصلين، ذلك المشهد المهيب، ووقف عند مشاهده المقدسة، ثم جال في طرقات القدس وميادينها، وزار المعالم ووقف على آثار الأولين وشاهد مآثر أبطال هذه الأمة، ثم جال في مدن فلسطين وقراها يتلمس مآثر الأوائل، ثم غادرها إلى دمشق، وحلب، وحمص طرق تلك البلاد ليتحسس فيها أصوات أبي عبيدة، وخالد ابن الوليد، وسيف الدولة الحمداني.
ثم انطلق بنا إلى أرض الكنانة؛ إنها مصر، فإذا به في القاهرة مدينة المدن، فزارها في 1378هـ، فأهاج تاريخُها وآثارها ذاكرته لتفيض بأخبارها العتيقة، فرحل إلى معالمها القديمة والحديثة، ليمر تاريخها المهيب أمام مخيلته بوابل من الأحداث، إذ هي خزانة التاريخ.
كما اصطحب معالي الشيخ الرحالة محمد العبودي إلى السودان في 1395هـ، فزار الخرطوم وأم درمان ومعالمهما، ثم ارتحل في 1400هـ إلى تونس، ليشاهد ساحاتها الخضراء، وغاباتها الكثيفة، وماضيها الزاخر، من الفينيقيين إلى الرومان، الفتح الإسلامي، حيث جامِعَي العلم وأكابر العلماء والثقافة جامع الزيتونة، وجامع عقبة ابن نافع، واستطرد في وصفهما، وزار القيروان ذات الطابع القديم، هدية عقبة لتلك البلد العظيم، فترنم وأنشد فيها أشعارًا تغنى فيها بجمالها وآثارها وروعتها.
ثم حلق بنا مع رفاقه إلى الجزائر في 1385هـ، في رحلة مرَّت بالقاهرة وبنغازي وتونس ثم إلى الجزائر فإذا هم أول بعثة عربية تصل إليها من المشرق العربي بعد استقلالها، فزار حي القصبة معقل المجاهدين، وإذا به يحكي جَلَدهم وصمودهم أمام المحتل الغاشم، ثم أخذت لُبَّه مناظر ومرائي المزارع والأودية والبساتين والغابات على سفوح الجبال، قضى فيها عامين دراسيين فعرف مدنها وآثارها ومعالمها التاريخية وعلماءها نقشت في ذكرياته أيامًا لا تُنسى، ولم يفته في مقامه ذلك أن يزور معشوقته تلمسان لؤلؤة المغرب العربي ليرى ما حَفَلَت به من آثار كثيرة أفصحت عن عمق ماضيها، إذ هي مركز للحضارة والتجارة والسياسة عبر العصور.
ثم عاد إلى المغرب ثانية في 1400هـ حاطًا رحاله في الدار البيضاء أكبر مدنها، حيث الأمطار والرياح الباردة والأجواء الخلابة، ثم إلى مراكش، ثم إلى الرباط، وتطوان، وإيفران، ثم إلى فاس في 1413هـ، مدينة العلم والآثار فبَسَط حديثه فيها عن العلم والعلماء، وفاضت ذكرياته وقريحته الشعرية بتاريخ ربط المشرق بالمغرب، ثم إلى مكناس في 1415هـ فحيَّاها بشِعره أجمل تحية.
ولم يفته في رحلاته هذا أن يعبر إلى إسبانيا، أندلسنا العريقة، حيث هناك جبل طارق، وتلك الصفحات المضيئة من تراثنا في مكتبة الأسكوريال مأوى المخطوطات الأندلسية تحكي مجدًا أعظم، قبلة للباحثين من شتى بقاع العالم، فيها عجائب العالم، فزار القصر والمقبرة الملكية، ثم زار مدريد فسجل انطباعاته عن ماضيها وحاضرها.
* *
أما كتابه الثاني فكان بعنوان: «ومضات فكر وحصاد قلم» وخطَّ مقدمته ابنه خالد -الرئيس التنفيذي لشركة النقل الجماعي- والكتاب مجموعة منتقاة من مقالات المتنوعة لوالده الأستاذ عبد الله الحقيل نشرها في الصحف، إضافة إلى أحاديث عبر برامج الإذاعة والتلفاز.
أفصح ذلك الكتاب عن فصاحة قلمه، وبراعته في الأدب، كما كشف عن رجل ذي مقام مكين في عالم التربية والتعليم، إذ أفاض فيه بالحديث عن أهمية المدرسة ودورها في رعاية النشء وتنمية الإبداع والتميز، كما نبه على التاريخ وكيف هو جزء من الهوية الثقافية لهذا الوطن وأبنائه، وجزء من شخصيته الحضارية، وذاك الذي أشير إليه ونُبِّه عليه في رؤية 2030، وكأن هذا الرجل ينظر بعين ثاقبة ترمي إلى المستقبل فكأنه كان يقرأ حاضرنا، كما أشار إلى دور المعلم العظيم وعبئه الأول في بناء التربية وإصلاح النشء، والمدرسة ودورها في رعاية الموهوبين أعمدة الوطن الذين ترتكز عليهم عوامل النهضة، كما قدم خططًا طموحة لتربية الشباب ورعاية مواهبهم لخدمة هذا الوطن، ونبه على الجامعة وتنمية البحث العلمي، كما حدثنا عن شجونه التربوية حول تأسيس المدرسة السعودية الابتدائية بالمجمعة عام 1356هـ، وتحدث عن التربية الوطنية والاهتمام بالأجيال، وتنمية المواهب والإبداع والتميز والاستثمار في بناء الإنسان، إذ هو عماد الإنجازات الحضارية، وطرح في كتابه هذا مواضيع كثيرة شتى يضيق المقام بذكرها، تحكي في مجملها رؤية ثاقبة توصي ببناء الأجيال والاهتمام بالتعليم والتربية واللغة والأدب، وتقدم نماذج عظيمة ليُقتدي بها في شتى المجالات، مما يفتح آفاقًا بعيدة لأبناء هذا الوطن ليعبروا به إلى ركب التقدم، ومصاف عظمى الدول، حتى يشار إليه بالبنان.
ويحمد له تتبعه الدقيق ورصده للتطور الثقافي والتراثي والتعليمي في المجالات المعاصرة والمتجددة، حرص سبل الوعي الثقافي وسردها بأسلوب قصصي جذاب. ومما يميزه عن غيره أنه أشار إلى أهمية الآثار في بلادنا وهي علامة معبرة عن عراقه هذه الأمة في الوجود الحضاري فآثار بلادنا تمتاز بالتنوع الحضاري، مما أعطى لكل منطقة من مناطقها شخصيتها المتميزة. وقد حمل أمانة لمختصين في الآثار بأن يضيفوا لنا المزيد من الحفريات، ويعيدوا لنا التراث العريق.
كما أشار أيضاً إلى أهمية إبرار الروابط التاريخية والتراثية المشتركة بين دول مجلس التعاون، وإن أهمية التاريخ في حياة الأمم تنبع من كونه المخزون الصادق لمنجزاتها، والسجل الحافل لمعطياتها، لذلك فمن الواجب أن نهتم بالمخطوطات والتراث لما يمثله من إنتاج فكري وحضاري وتاريخي لحضارة الأمة. وتلك دلالة على تقدمها ومعطياتها الفكرية، ويعطي الأمة حصانة في مواجهة الغزو الفكري والثقافي ضدها.
إذ التاريخ مدرسة واسعة ووسيلة مثلى للارتقاء بالمفاهيم والأفكار، فهو ينمي المعرفة ويشعل في الإنسان رغبة التطلع والمعرفة ويجعل له خبرة ومعرفة وابتكار، وإنه لجدير بالشباب أن يحرصوا على قراءة التاريخ وأن يتعرفوا على بلادهم مما يدفعهم إلى المزيد من التضحية والعطاء والعمل.
وفي الجملة فقد تناول كاتبنا موضوعات ذات أهمية بالغة في نشر الوعي والثقافة وتحقيقاً لرؤية المملكة2030، بما تحمله من أبعاد نهضوية، ودينية، وثقافية، وفكرية، وسياسية، واجتماعية ومن أدب الرحلات في الأقاليم العربية.
والحث والحرص الاهتمام بتراثنا ودعم الرحلات في هذا الجانب ليس وليد اللحظة، بل يعود اهتمام المملكة العربية السعودية بالتراث إلى زمن الدولة السعودية الأولى والثانية، غير أن اهتمام هذه الدولة بتراثها وآثارها لا ينفصل عن قيمها ومبادئها، وعن الأسس التي قامت عليها.
وقد استمر الاهتمام بالآثار بعد تأسيس المملكة العربية السعودية، ابتداءً من الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود -طيب الله ثراه- الذي دعم البعثات الأثرية المختصة، ونشر الكتب المتعلقة بالتراث والآثار، واعتنى بجملة من الأماكن الأثرية، ودعم الرحلات الاستكشافية وأسَّس المتاحف.
كما اهتم بذلك الملك عبد الله بن عبد العزيز حيث شهر انطلاقة التطوير والدعم الخاص بالآثار من خلال قراره بدمج قطاع المتاحف والآثار مع الهيئة العامة للسياحة والآثار، فتجلت عناية المملكة بهذا الجانب في جهود الهيئة العامة للسياحة والآثار برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز، المعروف باهتمامه ووعيه، وجهوده المميزة في خدمة التراث والآثار الوطنية.
وبلغ ذلك الاهتمام أوْجَهُ في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله-؛ إذ بذل الكثير من الجهود لدعم التنمية السياحية والتراث الوطني في المملكة، وكان داعماً رئيسًا لمشاريع الحفاظ على التراث الوطني وبرامجه، وقدم اهتمامًا بالغًا بنمو النشاط السياحي في المملكة، وحرص أن تكون المملكة العربية السعودية قبلة للسائحين من شتى بقاع العالم للتنزه والسفر إلى مناطق المملكة للتعرف على حضارتها المكنونة التي لم يعرف العالم عنها إلا القليل، ودعم -حفظه الله- الهيئة العامة للسياحة والآثار في الكثير من القرارات التي خدمت القطاع وأسهمت في نموه.
وكيف لا؟! وقد عُرف -حفظه الله- باهتمامه وحبه للتراث ومطالعته الدؤوبة للتاريخ، إذ هو مؤرخٌ موثوقٌ يَرْقُبُ الحِراكَ في المشهد الحضاري والتاريخي من كثب، ويدعم المهتمين به أينما كانوا، ليغرس فيمن حوله الاهتمام والعناية بالتراث الوطني بمختلف مجالاته، وليُعْلِمَ الناس أجمعين البعد الحضاري لأرض المملكة ليرسخ مكانتها الحضارية وعمقها التاريخي.
كما اهتم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله- بأمور التراث اهتماماً بالغًا منذ وقت طويل، وهو ما بدا واضحًا في تطور النسيج العمراني للعاصمة الرياض، خصوصاً عنايته بالمعالم التاريخية التي شهدت تكوين الدولة السعودية وتوحيد هذه البلاد على يد الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود -يرحمه الله-.
والمتابع لمسيرة الملك سلمان واهتمامه بالتراث يدرك جيدًا أنه ظل راعياً للتراث وداعماً لجميع المشروعات التي تخدم قضاياه والاعتناء به، خصوصاً في منطقة الرياض التي تولى إمارتها لأكثر من خمسة عقود حفلت بالعطاء لهذا الإرث الحضاري، بل شمل عطاؤه واهتمامه بالتراث مناطق المملكة المختلفة وكثيراً من دول العالم.
والكم الهائل من المشروعات التراثية في الرياض وغيرها من ربوع المملكة لخير شاهد على دعم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز (حفظه الله)، إذ أحدث في الرياض نقلة عمرانية هائلة لم تخطر ببال، حتى ألبسها حلة قشيبة في سنوات قليلة من عمر الزمن حتى صارت تحفة من تحف الزمان والمكان تنافس عواصم الدول المتقدمة في الرقي والتطور، وبالأمس القريب كانت قرية صغيرة، إذ تسارع العمران فيها في كل حدب وصوب، فأصبحت مدينة عالمية كبرى في برهة من الزمن.
وما التراثُ في عينه -حفظه الله- إلا هويةً للمدن؛ إذ رغم كل تلك النهضة التي أُسبغت على الرياض ظاهرها وباطنها فقد احتفظت بهويتها المعمارية سواء أكان في المواد المستخدمة أو آليات البناء والتصميم مع بعض ملامح التجديد التي لم تؤثر على جوهر الهوية والموروث الحضاري لهذه الأمة، لذلك استطاع الأمير سلمان أن يعبر بتراث هذه الأمة من الحيز المحلي والإقليمي إلى الفضاء العالمي، حيث جاء الاعتراف به وإدراجه في قائمة التراث العالمي من خلال مواقع مدائن صالح، والدرعية التاريخية، وجدة التاريخية.
وما دارة الملك عبد العزيز إلا ثمرة من جهده -حفظه الله- إذ تعد مركزًا وطنيًّا معنيًّا بحفظ مصادر التاريخ فهي ذاك الحارس الأمين على التاريخ والحضارة وتراث هذا البلد العظيم، ومصدر مهم لرفد الأجيال المتعاقبة على مر العصور بتراث أجدادهم وحضارتهم، وتعريفهم بالإنجازات الحضارية والإنسانية التي حققوها في تلك الحقبة من الزمن.
ولطالما أَسْدَت دارة الملك عبد العزيز منذ تأسيسها، خدمات جليلة لتاريخ هذا الوطن وجغرافيته وآدابه وتراثه وآثاره الفكرية والعمرانية؛ إذ قامت على تحقيق الكتب التي تخدم ذلك، وطباعتها وترجمتها، بإشراف وإدارة وعمل دؤوب من الملك سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله- كما اهتمت بتاريخ الجزيرة العربية والدول العربية والإسلامية وآثارها بصفة عامة، فكم قدمت من بحوث ودراسات ومحاضرات وندوات عن سيرة الملك عبد العزيز خاصة، وعن المملكة وحكامها وأعلامها قديماً وحديثاً، وما زالت تحافظ على مصادر تاريخ هذا الوطن وجمعه، وآثار الدولة السعودية منذ نشأتها، وخدمة الباحثين والباحثات في مجال اختصاصات الدارة، ولها دور بارز في إظهار القيمة الحضارية والثقافية للمملكة، فرصدت التراث الحضاري والثقافي والعلمي من كتبٍ وصور نادرة، ومخطوطات ومواد فيلمية متنوعة. وفي الختام تتسابق الكلمات لتزاحم العبارات، ولتَنْظُمَ عقدَ شكرٍ وافرٍ لمن قام على طباعة الكتاب الأول «رحلات ثقافية لبلدان عربية»، إنه معالي الأستاذ ماجد بن عبد الله بن حمد الحقيل وزير الإسكان السعودي ووزير الشؤون البلدية والقروية المكلف -حفظه الله- ابن كاتبنا الراحل -رحمه الله- فله الشكر الجزيل على ما بذله من جهد جهيد في إخراج هذا الكتاب لجمهور القراء، فأبدى درره وكشف عما تفرَّد به من قيمة بحثية، وطرح سهل للعامة والمختصين والأكاديميين.
كما نقدم أكاليل الشكر العطرة للأستاذ خالد الرئيس التنفيذي والعضو المنتدب للشركة السعودية للنقل الجماعي «سابتكو» -حفظه الله- الابن الأكبر لكاتبنا الكريم، والذي قام على طباعة كتاب «ومضات فكر وحصاد قلم» فكشف لنا عن مكنونه.
والشكر موصول لابنته البارَّة الدكتورة أريج الحقيل الأستاذ المساعد بقسم نظم المعلومات بكلية علوم الحاسب والمعلومات ووكيلة عمادة التعاملات الإلكترونية والاتصالات بجامعة الملك سعود، لما أراه فيها من رجاحة عقل، وحكمة صائبة، تستحق ريادةً لنساء وطننا الحبيب.
فجزاهم الله عنا وعن القراء، وعن والدهم خير الجزاء، فنعم الأولاد، لنعم الوالد، وكُتب لهم الأجر العظيم بما قدموه لأبيهم من ثواب وفير، وكيف لا؟! وذاك صدقةٌ جاريةٌ، وعلمٌ يُنْتَفَعُ به، وبدعوتهم لأبيهم تكتمل خير الأعمال وأفضلها مما يقدم للموتى، إذ قال -صلى الله عليه وسلم-: إذا مات ابنُ آدمَ انقطع عملُه إلا من ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنتفَعُ به، أو ولد صالح يدعو له) ونحسب أن أولاده كذلك، ونحسب أن والدهم قد حاز على الثلاث، فاللهم اجعلهم من خير الخالفين لخير السالفين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وها قد غادر كاتبنا العظيم الحياة بهدوء وسكينة، فرحم الله المربي عبد الله الحقيل فقد كان نعم الابن البار لهذا البلد، فقد خلف وراءه تراثا عظيما ينير الدرب لأبناء هذا الوطن، فسيظل ذكرُه باقيًا بما قدم، فقد قال الشاعر:
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها
فالذكر للإنسان عمر ثان
فها قد رُفِع ذكرُه، فلا نُعزِّي فيه -رحمه الله- إلا أنفسنا على فقدنا إياه، ولكنها مشيئة الله، والحمد لله رب العالمين.
** **
مشاعل عيد الرويلي - طالبة دكتوراة - قسم التاريخ بجامعة الملك سعود