اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
ولم يكتف النظام التركي بالتدخل في شؤون الدول الأخرى عن طريق جماعات الإسلام السياسي والتنظيمات الإرهابية والمرتزقة الذين ينقلهم من مكان إلى آخر، بل زج بقواته العسكرية في عمليات هجومية، تبنى بموجبها مذهباً عسكرياً جديداً يتيح لهذا النظام التدخل العسكري المباشر في الدول المستهدفة والبقاء داخل أراضيها دون تحديد وقت معين لهذا البقاء، مبيحاً لنفسه احتلال أراضي الدول الأخرى وانتهاك سيادتها تحت ذريعة المحافظة على الأمن القومي التركي ومحاربة الأحزاب الكردية التي يصفها بأنها إرهابية.
واعتناق مبدأ مواجهة التهديدات المفترض قدومها من خارج الحدود قبل وصولها إلى الأراضي التركية، يعد التذرع به في مثل هذه الحالة سابقة خطيرة في تاريخ الدول مع وجود البدائل السياسية والأمنية التي تغني عنه وتقوم مقامه، حيث إن هذا العمل العدواني مهما يوحي ظاهره بأنه حق أريد به باطل فإنه يمثل في الحقيقة إمعاناً في الباطل ظاهراً وباطناً لأن النظام التركي استغل الضعف الذي تعانيه الدول المجاورة لتأكيد حضوره ونفوذه، تمهيداً لتحقيق شيء من هاجسه العثماني.
والأطماع الاقتصادية والنظرة التوسعية الجيوسياسية في الوطن العربي من قبل النظام التركي لم تكن جديدة، ولكنها ظهرت إلى السطح وكشفت عن الهاجس العثماني لدى هذا النظام بعد أحداث الربيع العربي عندما عقد العزم على الرمي بثقله في خضم الأحداث وكشف أوراقه باللجوء إلى القوة العسكرية في عدد من الدول العربية، حيث أحتل الشريط الحدودي السوري عسكرياً، وأقام نقاطاً أمنية على طول هذا الشريط محاولاً تغيير التركيبة السكانية والعبث بالنسيج الاجتماعي والهوية الوطنية في الشريط المحتل والمدن والقرى المجاورة له مع التذرع بذرائع أمنية لا تبرر الغزو والاحتلال والتغيير الديموغرافي والاجتماعي والأيديولوجي التي يمارسها المحتل التركي.
وبالنسبة للعراق فالاعتداء على حدوده وانتهاك سيادته من قبل الأتراك على قدم وساق منذ الغزو الأمريكي وما يشبه الاحتلال الإيراني لهذا البلد، وما عقب ذلك من سيطرة تنظيم الدولة الإرهابي على جزء كبير منه، الأمر الذي يدل دلالة واضحة على الأهداف التركية ذات النزعة القومية والصبغة العقدية التي تروج لها جماعات الإسلام السياسي وتحركها العقلية العثمانية.
وبعد التدخل التركي في ليبيا سقطت الأقنعة ووهت الذرائع التي كان يتذرع بها حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان عند التدخل في العراق وسوريا، فلا حدود مشتركة ولا تهديد للأمن القومي التركي، ولا وجود للأحزاب والتنظيمات الكردية التي دأب النظام التركي على التذرع بها ووصمها بالإرهاب، مما يؤكد المطامع الاقتصادية والأهداف الجيوسياسية المنبثقة من الإيديولوجية العثمانية الجديدة التي ترى بأن الوقت قد حان للانطلاق نحو الوطن العربي وتحويله إلى شرق أوسط جديد تشارك تركيا قوى الاستعمار في الهيمنة عليه وتقسيمه إلى كيانات تابعة.
والواقع أن التطلع إلى استعادة الهيمنة العثمانية والنظرة التوسيعية في الوطن العربي تعد من الأمور المتأصلة في فكر المسؤولين الأتراك، ولكن ظهر ذلك إلى العلن وتجسد على أرض الواقع منذ تولي حزب العدالة والتنمية زمام الأمور في تركيا حيث بدأت النظريات تتحول إلى ممارسات على الأرض تجاوزت دول الجوار إلى دول بعيدة.
ولتحقيق هذه الغاية ذهب أردوغان بعيداً في التلون وتغيير المواقف والافراط في البرغماتية واعتبار الغاية تبرر الوسيلة الى الدرجة التي جعلته ينظر إلى مصائب الدول المجاورة بأنها مكاسب، مستغلاً هذه المصائب ليتدخل في شؤونها، بما في ذلك القيام بالعمليات العسكرية ضدها وبناء القواعد العسكرية على أراضيها.
ومن هذا المنطلق استغل النظام التركي القلاقل وحالة الفوضى التي سادت العراق في أعقاب الاحتلال الأمريكي والتدخل الإيراني ووجود تنظيم الدولة الإرهابي في هذا البلد لزيادة التدخل في شؤونه وإنشاء القواعد والمقرات العسكرية على مقربة من حقول النفط في الموصل وكركوك، ووجد في الثورة السورية والتدخلات الأجنبية وانهيار الدولة في سوريا فرصته للاحتلال وإقامة القواعد العسكرية ونقاط المراقبة الأمنية داخل الأرض السورية، كما أن الخلاف الخليجي فسح له المجال لبناء قواعد عسكرية في قطر وعقد اتفاقية مشبوهة مع النظام القطري، متخذاً من هذا النظام أداة قذرة ضد أمن الدول الخليجية والامن القومي العربي ككل.
والأزمة الليبية فتحت شهية النظام التركي للتدخل في ليبيا وعقد الاتفاقيات مع أحد أطراق الصراع الليبي ضد الطرف الآخر، بحيث تسمح له هذه الاتفاقيات بإرسال قوات تركية إلى ليبيا مع إقامة قواعد عسكرية لها تحت مظلة هذه الاتفاقية المشكوك في شرعيتها وسلامة أهدافها، وفي الصومال انتهز النظام التركي انهيار مؤسسات الدولة للتدخل في هذه البلد، ممنياً الصوماليين بإعادة بناء الدولة ومفتتحاً هذا التدخل ببناء أول قاعدة عسكرية لتركيا في القارة الإفريقية، كما بذلت تركيا جهداً جهيداً لإقامة قاعدة لها في جزيرة سواكن في السودان ولكن اصطدم هذا الجهد بالثورة الشعبية التي جمدت المشروع وأبطلت مفعوله.
والدولة التي تستغل مصائب الدول العربية، وتجعل منها مكاسب لها مع اختلاق الذرائع والحجج للاعتداء على هذه الدول والتدخل في شؤونها ونشر قواعدها في أماكن مختلفة من الوطن العربي، ماذا يمكن أن يقال عن مآرب هذه الدولة وأهدافها، لا شك أن الجواب على هذا التساؤل هو أن لها أهدافاً قريبة وأخرى بعيدة، فالأهداف القريبة تكمن في مطامعها الاقتصادية وحل مشكلاتها الداخلية أما الأهداف البعيدة فتتمحور حول بناء الأسس التي على ضوئها تتكرس الهيمنة ويمتد النفوذ والحضور الفاعل كلما كان ذلك ممكناً على حساب الأمة العربية تمهيداً لنجاح مشروعها سواء في إطار مشروع الشرق الأوسط الجديد أو ما تضمنه الميثاق الذي يعرف بالميثاق المليِّ بشأن الأمن القومي التركي ومفهوم هذا الميثاق ينص على أنه إذا لم ترسم خطاً واسعاً خارج الحدود، فمن الصعب أن تدافع عن الحدود الوطنية والهدف النهائي هو الهاجس العثماني وما يعنيه هذا الهاجس من التحسب لانتهاء سريان مفعول معاهدة لوزان والحلم بالعودة إلى ما قبلها.