د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
في إحدى مسرحيات «آرثر ميلر 1915 - 2005م» مشهدُ ساحرةٍ رفضت الاعترافَ بامتهانها السحر وأضافت تعزيزًا لموقفَها: «إنها لا تعرفُ ما هو السحر!» فوافتها جملةٌ حاسمةٌ: كيف تنكرين أنك ساحرة وأنت لا تعرفين السحر؟!
** هنا تبدو دلالةُ النفي المؤدي إلى الإثبات حيث تنقلبُ الصورةُ باتجاه الادّعاءِ الامتلاكيّ الذي يتوهمُ الحقيقة إحدى مقتنياته والإنكاريّ الذي يسعى لنفض مسؤولياته، وكذا الأمر في كل ما لا يخدمُ مصلحة الفرد أو ظرفه الزمنيّ أو العمليّ سواءٌ أكان بوعيٍ يمسُّ تبعات الاعتراف أم دون إدراكٍ لما يفعلُه الافتئات، وهو التفاتٌ تحايليٌ لتوظيف النطق مجردًا من المنطق.
**وفي المدار الثقافي لا يستطيع واحدُنا نفيَ اسمٍ أو وسمٍ أو رسم إلا إذا وعاها، فلا يكفي أن يرى نفسه غير منغلقٍ وهو لم يحدد مصطلح الانغلاق، أو أنه ليس متعصبًا من غير أن يعرف معنى التعصب، أو أنه ناءٍ عن الليبرالية دون فهمٍ لها، وقديمًا اجترأ شاعرٌ تراثي على الرغبة في معرفة الشر «لا للشر لكن لتوقيه..».
** بذا تبدو قيمةُ الإحاطة بالدلالات قبل القطع بالإجابات ليظلَّ الاعترافُ بالجهل منطقًا يسوءُ ولا يسود، وفي أزمنةٍ -لم تزل- يحاولُ بعضُنا التباهيَ بقيمة التجاهل لرفض تجسير الوصل مع ما يريدُ الإيحاءَ بغفلته عنه، وكم انتشت ثللٌ بإيحاء التعالي، وهو إدلاجٌ في ظلمة المحاكمة وظلام الحكم.
** في صبانا استضاف المركز الصيفيُّ أحد المشايخ الفضلاء، فطُرح عليه سؤالٌ عن موضة «الخنافس» أيام وهج فرقة البيتلز (1960 - 1980) فأجاب بذكاء: «لا يجوز أكلُها»، فتهرب سريعًا كي لا يُحرم حلالًا، وما كانت سوى قصة شعر ساذجةٍ لو عادت اليوم لضحك منها الجيل الناشئُ كما سيهزأُ الجيلُ القادمُ من كثيرٍ من تقليعات اليوم، وسئل الشيخُ نفسُه في موقعٍ آخر عن «تدخين النرجيلة» فما زاد على أنه يذكر وجودها في مكانٍ قصيّ مبديًا تعجبه من وصولها إليهم، وهو هنا لم ينفِ العلمَ بها لكنه لم يُحاكمْها، وفي مثلٍ مشابهٍ قد يُضطر فئامٌ لنفي علاقتهم بالماسونية وهم لم يعوها أصلًا كما لم يعِها من اتهمهم بها، وفي هذا جهلٌ مركبٌ من الطرفين لإبحارهم في مسارٍ لجِّيٍ حول «البنَّائين الأحرار» الذين ظلَّ الجزم بهُويتهم عسيرًا، وسبق أن حاضر شيخٌ جليلٌ في موقعٍ إداري وعلمي ووصفه بأنه معقل ماسونيٌ، ونُقل عن أحد مسؤوليه أنه استعار كتابًا ليعرف ما هي الماسونية التي أُلصقتْ بجهازه وهو لا يدري، وعاب الفرزدق على من سأل: من هذا؟ فأودى به استفهامٌ متكبر.
** حكاياتٌ عابرةٌ من مواقفَ عامرة، ومن يتظاهرُ أو يتفاخرُ بالجهل أو التجاهل فحقُّه أن يسائلَ نفسَه عن صدقِه من كذبه، وعن دوافعه ونوازعه، وفي زمننا لا إيقاعَ دون موقع.
** النفيُ إثباتٌ أحيانا.