إن ثالوث الشر في نظامنا الاقتصادي المعاصر هو: الفقر وعدم المساواة والدورة التجارية وما تسببه من اضطراب في الإنتاج وما تؤدي إليه من بطالة بين صفوف العمال.
هكذا يرى أكثر من منظّر اقتصادي واقعنا الاقتصادي المعاصر، وعناصر الاضطراب والهدم المؤثرة في واقعنا.
فأول مشكلة يواجهها المصلح الاقتصادي هي كيفية زيادة الثروة المادية للقضاء على ظاهرة الفقر.
فالعالم الآن لا ينتج من الثروة المادية ما يكفي لإشباع الحاجات الضرورية الأساسية التي يحتاجها الأفراد.
لقد مضى ذلك الزمن، الذي كان فيه المستهلك هو صاحب اليد العليا والكلمة النافذة في النشاط الاقتصادي، حين كان يستطيع بواسطة حريته في الشراء والامتناع عن الشراء أن يحدد نوع السلعة والكمية المنتجة وإلى حد كبير السعر الذي تباع به.
ولكن أخذت السلطة الاقتصادية وزمام الموقف ينتقلان بالتدريج إلى أيدي المنتجين، وانتهى الأمر إلى تحكمهم عن طريق الاحتكار وحملات الدعاية في طلبات المستهلكين، وكذلك في الأسعار.
وأصبح المستهلك هو الرجل المنسي في النشاط الاقتصادي.
يقول الدكتور أحمد دويدار في كتابه: (الديمقراطية الاقتصادية): لماذا لا نعيد المنافسة الحرة إلى عرشها، إذا كانت تؤدي إلى زيادة الكمية المنتجة وإلى انخفاض الأسعار.
إن المنافسة الحرة تدفع المنتجين إلى تحسين وسائل الإنتاج واستخدام الأساليب الفنية والمخترعات الجديدة لزيادة الكمية المنتجة وتخفيض الأسعار، ولكنها في الوقت نفسه تدفع المنتجين إلى انفاق مبالغ طائلة على الدعاية. خاصة أن السوق الحر يرتكز على المنافسة الكاملة ولكن أين هذا السوق الذي تتوفر فيه المنافسة الكاملة؟!
إن قيام حالة المنافسة الكاملة أو الحرة تكاد تكون نادرة.
فلم يعد يؤمن بمبادئ المنافسة الحرة، كما قال بها أنصار مدرسة الحرية الاقتصادية، في القرن التاسع عشر، إلا الذين أشرفوا على الجنون, فأكثر الناس مغالاة في تمجيد مبدأ المنافسة الحرة، لا يستطيع أن يزعم بأنه من صالح المجتمع أن تكف الحكومة يدها عن كل تدخل, فيكاد يتفق الجميع على أن هناك عدداً من الوظائف ينبغي أن تقوم به الدولة.
بيد أن قائمة هذه الوظائف تختلف في الطول أو القصر باختلاف وجهات النظر.
لقد أصبح الاتجاه نحو تحقيق مزيد من المساواة في دخل الأفراد وثرواتهم، محور تفكير كثير من الاقتصاديين ورغبة جامحة تساور نفوس المصلحين.
إذ لا ينبغي أن يستخدم جزء كبير من موارد الثروة لتوفير الكماليات وسلع الترف لعدد قليل من الأفراد بل ينبغي أن نستخدم موارد الثروة لإشباع الحاجات الضرورية أولاً، حتى يتيسر القضاء على الفقر وما يقترن به من جهل وبؤس وكآبة، تؤذي النفوس قبل أن تؤذي العيون.
إن مصدر النزاع الدائم بين الأغنياء والفقراء هو أن الأغنياء يورثون أبناءهم الثروة فيحصلون بذلك على دخل لا يتناسب مع الخدمات التي يؤدونها للمجتمع.
ففي كثير من الحالات اشترى الأغنياء طريقهم إلى المجد والشهرة ومراكز الصدارة بالمال. فالثروة تهيئ الفرصة، وتفتح أبواب النجاح في حين أن الفقر يضيعها ويغلقها.
أما تفاوت تقدير المجتمع للخدمات التي يؤديها الأفراد، فهذا أمر طبيعي، فمما لاشك فيه أن العمل الذي يؤديه الجراح أكثر قيمة في نظر المجتمع من العمل الذي يؤديه الرجل المكلف بتنظيف حجرة العمليات.
ولكن، ليس معنى ذلك أن تقدير المجتمع سليم دائماً، فالدخل الذي يحصل عليه أحد نجوم السينما في يوم واحد يزيد عما يحصل عليه المأذون الشرعي في سنة كاملة.
وما أظن أن هناك من يطالب بالمساواة في دخل الأفراد بصرف النظر عما يؤدونه من خدمات إلا الحمقى والجهلاء.
فالمجتمع الذي يكافئ المنتج المجد كالكسول الخامل، والذكي الماهر كالغبي العاجز، لابد أن يهوي إلى قرار سحيق من الفقر.
المهم، ألا يكون هناك تفاوت واسع واختلاف كبير وتباين عظيم في الدخول والثروات، قد يحدث اضطراباً وأزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية فضلاً عن الأزمات النفسية, يقول الاقتصاديون إن الفرد يقسم دخله بين الاستهلاك والادخار، فينفق جزءاً من دخله على شراء سلع استهلاكية، وقد ينفق الدخل كله، ويدخر ما يتبقى، وإن المجتمع يقسم إنتاجه إلى سلع استهلاكية وسلع إنتاجية رأسمالية, ومن الواضح أن مدخرات أي مجتمع ماهي إلا مجموع مدخرات الأفراد الذين يتكون منهم هذا المجتمع. ويؤكد الاقتصاديون أن المجتمع الذي يقتصر أفراده في إشباع حاجاتهم على الضروري من الغذاء والكساء والمأوى، هو مجتمع أقل عرضة للتقلبات الاقتصادية، إذ يضيق المجال الذي يضطرب فيه الطلب زيادة ونقصاً، على حين أن المجتمع الذي يتيسر لأفراده التمتع بالسلع الترفية وشبه الترفية يكون أكثر عرضة للتقلبات الاقتصادية حيث يتسع المجال لزيادة الطلب ونقصه اتساعاً كبيراً. ومن ثم، يمكن القول بصفة عامة، إنه كلما ارتفع مستوى معيشة مجتمع معين عن حد الكفاف كان أكثر عرضة لظهور التقلبات الاقتصادية، وأن أغنى الدول وأعلاها مستوى معيشة أكثرها إصابة بأشد أنواع الكساد.
لذا، ترى إحدى المدارس الاقتصادية أن الأسباب الرئيسة التي تكمن وراء الدورة التجارية إنما هي أسباب نفسية, وأن الدورة التجارية إنما هي نتيجة أخطاء متعاقبة من الإسراف في التفاؤل إلى إسراف في التشاؤم.
حيث تقترن موجة التفاؤل باشتداد روح المضاربة في الأسواق المالية ونشاط الحركة التجارية والصناعية وزيادة استثمار رؤوس الأموال، وكما أن التفاؤل يولد تفاؤلاً، فكذلك التشاؤم يولد تشاؤماً.
ويمكن تشبيه الدورة التجارية التي تصيب النظام الاقتصادي بالمرض المستعصي الذي يصيب الأفراد، فكلاهما مرض عجز المختصون سواء كانوا أطباء أو اقتصاديين عن علاجه والقضاء عليه، ولكنهم استطاعوا كسر حدته وشوكته.
ولا تعدو الدورة التجارية أن تكون هذه الحركة المنتظمة من ارتفاع وانخفاض وقوة وضعف وشدة ولين وصحة ومرض والتي تشاهد في كل جانب من جوانب الحياة.
فالدورة التجارية ظاهرة دولية، فالعالم كله وحدة اقتصادية، لا تستطيع أي دولة أن تكون بمعزل أو منجاة من القوى الاقتصادية التي تعمل في الدول الأخرى.
إن الدورة التجارية إحدى المساوئ الرئيسة للنظام الاقتصادي المعاصر، مثل الفقر وعدم المساواة, مبعثها اختلال التوازن، وعلاجها في أن يلائم هذا النظام الاقتصادي بين نفسه وبين الظروف المتغيرة.
كما أن التخلص من الفقر يتطلب نظاماً اقتصادياً أكثر كفاءة وإنتاجية من النظام القائم, ولإزالة الفوارق، وللتقريب بين دخل الأفراد، ينبغي إيجاد تناسب معقول مقبول بين ما يتمتع به الأفراد من خيرات الإنتاج، وبين ما يقومون به من أعمال وما يؤدونه من خدمات. وللوقاية من تقلبات الدورة التجارية وما تحدث من نكبات تكاد تعصف بكيان الحياة الاقتصادية، وتقتلع جذور النظام المعاصر، ينبغي أن يلائم النظام الاقتصادي المعاصر بين متطلبات وحاجات الناس المتزايدة والموارد المحددة نسبياً, فليس هناك خطة محكمة كاملة تحل جميع مشاكلنا الاقتصادية، فالإحكام التام والكمال هما من غرور الإنسان وهما أمنيتان عزيزتا المنال.
حيث لن نستطيع إعادة الصحة والعافية إلى الهيكل الاقتصادي بوصف جرعات من دواء واحد سحري أو بعض حبوب من صندوق المثل العليا.
ختاماً أقول إن العلاج الاقتصادي مسألة مهارة في التطبيب قبل كل شيء, تطبيب يمتاز بالمرونة وعدم التقيد بأفكار وآراء جامدة، فالتشبث بفكرة واحدة أو رأي واحد هو الخطأ القاتل في كل علاج, فالاقتصادي الناجح كالطبيب الناجح له من صفات الفنان والمبدع أكثر مما له من صفات العالم والفقيه.