الهادي التليلي
عندما صرح ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بأن أوروبا المتقادمة سيحل محلها كيان خليجي قوي يستند في قوته إلى القوة الاقتصادية لبلدانه، كان ذلك في توقيته وفي محتواه من حكمة الأمور بمكان، حيث إن الثورة الاقتصادية الناعمة التي تشهدها دول الخليج زيادة على وحدة اللغة والجغرافيا والمعتقد والمصلحة المشتركة، وتوجه العالم نحو التكتلات الإقليمية وتهاوي القارة العجوز كما تحلل قبلها الاتحاد السوفياتي من خلال البروسترويكا أو برنامج إعادة تأهيل الاقتصاد الذي فاجأ به ميخائيل غوربتشاف العالم منتقلا من العهد السوفياتي اللينيني إلى العصر الروسي الحديث، وقبل ذلك كان للدولة العثمانية التي تحللت بدورها بثورة مصطفى كمال أتاتورك بعد محاولات أنور وطلعت وجمال باشا، وخرجت من إمبراطورية إلى دولة تركية تتوسط قارتي آسيا وأوروبا وعلى غرار الرجل المريض، وهو النعت الذي كانت توصف به الإمبراطورية العثمانية آخر أيامها، تشهد أوروبا القارة العجوز تهرماً تنموياً وبداية انسحاب جسدته بريطانيا التي تعد من أعمدة الكيان الأوروبي، وترجمته الانكسارات التي عمقت جراحها جراء آثار كورونا، فسقوط إيطاليا وإسبانيا والبرتغال وترنح فرنسا وموجة الإقالات التي شهدتها ألمانيا، ويكفي أن نذكر فقط تسريح 29 ألف موظف دفعة واحدة من شركة الطيران الألمانية لوفتهنزا وهو ما يذكر بالأزمة الاقتصادية لسنة 1929، فالاتحاد الأوروبي لم يعد متحدا وتلك هي عيوب الأنظمة الليبرالية المبنية على البراغماتية والمصلحية والخلاص الفردي، وهو ما ترجم لا مبالاة باقي الدول وخاصة منها الإسكندنافية، لأن الأوروبيين صحيح أنهم اجتمعوا قبل غيرهم على توحيد العملة والتأشيرة والكيان، لكنهم لم ولن يستطيعوا أبدا التوحد داخل مؤسسة لغوية واحدة، فما يفرقهم قادر في كل منعطف وتحد قوي مثل جائحة كورونا أن يطغى على ما يوحدهم.
في الحقيقة كلام ولي العهد هو سليل قراءة حكيمة لنظام أساس مجلس التعاون الخليجي، ولو تمعنا في النظام الأساسي لمجلس التعاون الخليجي نجد فيه حرفيا «تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين الدول الأعضاء في جميع الميادين وصولا إلى وحدتها». فتأسيس مجلس التعاون الخليجي في 25 مايو 1981 من الدول الأعضاء : المملكة العربية السعودية والإمارات والبحرين وسلطنة عمان والكويت وقطر كدول لها مشتركات أساسية مهمة مثل التجاور الجغرافي والاشتراك في المصير والمعتقد الجمعي واللغة ونظام الحكم الملكي، والذي برهن الواقع والتاريخ أنه صمام الأمان الأكفأ أمام الهزات والتحديات، هذا المجلس وقيامه حسب وثيقة النظام الأساسي هو مرحلة تأهيلية قبل التوصل إلى كيان أكثر صلابة وأعمق تأثيراً على المستوى الاقتصادي والتنموي والحضور الكوني, ولعل محاولة توحيد العملة النقدية الخليجية سنة 2004 تأكيد على أن الشعور بالانتقال إلى مرحلة متقدمة في التعاون الخليجي كان ولا يزال هاجس القيادات السعودية الساعية إلى لم الشمل الخليجي خاصة والعربي عامة نحو مستقبل ينقل شعوبها نقلة إيبستيمية من لحظة البلدان النامية إلى كيان متقدم مهيب له أثره وفعله.
وبنفس عمق القراءة لواقع وطموحات كيان مجلس التعاون الخليجي جاءت قراءة ولي العهد السعودي للواقع، فالسعودية خلال أزمة كورونا أظهرت للعالم وللتاريخ أنها من الدول الكبرى، حيث كانت أكثر دولة قدمت مساعدات للدول النامية خلال أزمة كورونا بل وقدمت حتى لدول متقدمة، كما كانت سندا للبشرية من خلال حزمة المساعدات على مكافحة جائحة كورونا، حيث قدمت ما قدمت من دعم مالي لمراكز البحث التي حققت تقدما في إيجاد لقاحات لكورونا وحتى بعض اللقاحات التي تم تعميدها دولياً كانت السعودية مساهمة في جهدها ماديا، وهي نفسها السعودية التي احتضنت عاصمتها الرياض قمة العشرين بهمة واقتدار أثار إعجاب القاصي والداني مساهمة في نحت صورة براقة لجهود قيادتها ولافتة الانتباه للكيان الخليجي الذي صارت تجربته محل تثمين وإعجاب الجميع، وهي ذاتها التي لم تفكر في الخلاص الفردي على غرار البراغماتية الأوروبية بل كانت وفية لعمقها الخليجي وطرحت من خلال ولي عهدها مشروعاً يفي لطموحات مجلس التعاون الخليجي العربي بطرح الخليج من حيث الحضور والتأثير للقارة الأوروبية التي جعلتها الجائحة ترقص حافية على زجاج كورونا.
وليكون مجلس التعاون قوياً وصلباً لابد أن يكون وفيا لهذا التصور الذي فيه من الإيثار والإيمان بأن المستقبل المشرق لا بد أن يكون مشتركاً بنفس العمق.