عبدالوهاب الفايز
الحديث عن آليات إدارة وتشغيل مدننا والتحديات التي تواجهها، وفرصها الضائعة، يظل جذاباً للكتابة والتأمل.. ونخشى أن يبقى مصدراً للأسى والألم!
في العقود الأربعة الماضية كان بيدنا فرصة، وبتكلفة أقل، لإنشاء بيئة حضرية أكثر قربًا من الإنسان واحتياجاته، في المدينة التي يعيش فيها، حتى تكون مصدرًا لسعادته ولرضاه الوطني.
والفرصة للحديث عن مدننا يستدعيها ويحث عليها الكتاب الصادر حديثاً للأمير الدكتور عبدالعزيز بن محمد بن عياف (الإدارة المحلية والقطاع البلدي.. التحديات والفرص الضائعة)، والذي يدون فيه المؤلف تجربته في الإدارة المحلية أثناء عمله أمينًا لمدينة الرياض بين عامي 1997 - 2012م.
هنا أنت أمام ملامح تجربة ثرية في الإدارة، والأمير عبدالعزيز عبر المبادرة لتدوين مسيرته في الأمانة يواصل واجباته الوطنية، فتجارب رجالات الدولة الذين يتصدون لمصالح الناس، هؤلاء من واجباتهم الوطنية تدوين تجربتهم، فهذا يتيح التعلم وتراكم المعرفة، والقطاع البلدي ظل ساكنًا في تطوير مبادراته وآليات عمله هناك من جزم أنه (خارج الرؤية!).. فالذي يرى المشكلات الظاهرة لمدننا يدرك أننا نتجه إلى أزمة في الإدارة والتشغيل إذا ظلت الآليات والمعالجات متواضعة ولا ترقى للتحديات.
عبر ثمانية فصول وفي 300 صفحة، قدم المؤلف أبرز مجالات التغيير والتطوير الضرورية لنقل العمل البلدي إلى حقبة جديدة تعتمد آليات إدارية ومالية مستقلة، ومنهجاً فكرياً وأساليب رقابة وتنظيم، و(مشاركة مجتمعية) فعالة وإيجابية تستثمر مفاهيم (رأس المال الاجتماعي)، وما يتطلع إليه في الكتاب هو التنبيه (إلى جذر التحدي أمام العمل البلدي ومستقبل مدننا، وهي قضية الاعتمادية (على موارد الميزانية الحكومية) وعدم الاستقلالية المالية والإدارية وغياب أي قدرة مستقلة على المبادرة من جهة البلديات).
وأهم ما يدعو إليه، إحداث نقلة نوعية في القطاع البلدي، هو ضرورة تبني نهج (الإدارة المحلية كفكر ومنهج وأولويات للتغيير)، ويتمنى (أن تجد هذه الدعوة صداها المأمول). والرغبة الوطنية هذه لتطوير العمل البلدي كانت محل اهتمامه، كمسؤول ومتخصص في التخطيط الحضري والإدارة المحلية، وقد أدرك أهميتها القصوى لتطوير إدارة المدن بعد مضي بضع سنوات في عمله في الأمانة، وأشار إلى هذه القناعة في الكتاب.
لقد لمس الأثر السلبي لـ(المركزية الإدارية) في مرونة العمل في القطاع، وما أعطاه القدرة على النفاذ من عوائق هذه المركزية وأغلالها الإدارية لأجل تقديم مبادرات ومشاريع نوعية جديدة في العاصمة هو مساندة ودعم الملك سلمان يحفظه الله (عندما كان أميرًا للرياض)، فقد كان الحاكم والقائد الإداري الحكيم الذي يعرف متى تُقدر المصلحة العامة، ومتى تُفوض الصلاحيات حسب ظروف العمل ومتطلبات إنجازه حتى يحقق مصالح الناس، فخبرته الطويلة، يحفظه الله، وانشغاله بمصالح الناس وتواصله الدائم معهم جعله، كما يقول المؤلف، (يمتلك أسلوباً إداريًا متميزًا واستثنائيًا يجمع المركزية واللا مركزية في نهج إداري خاص).
وإحساس المؤلف بمشكلة مدننا مع الإدارة أخذته إلى المصارحة في الطرح، ومن يعرف الدكتور العياف وما يتميز به من هدوء وأدب جم وتواضع في طرح الآراء للحوار والنقاش، والتي عرفناها في مجلسه الأسبوعي الذي يعد أحد أبرز الصوالين الفكرية في العاصمة، يستشعر حساسية الوضع لمدننا، فعندما تكون المصلحة العليا دافع الطرح والتحليل والنقاش، فالجرأة العلمية الموضوعية تصبح هي القاعدة للمصارحة.
وللحقيقة أقول إن كل من يضطر لرفع السقف حين الحديث عن مشكلات مدننا فهو على حق. فعندما تخرج من بيتك إلى الشوارع حيث المسرح المفتوح، فأنت تبحر في الشجن والمعاناة. في هذا الفضاء السريالي تتلاعب بمشاعرك مفاجآت الطريق، فالمركبات المنطلقة بعنف ومناوراتها حول الحفريات والمطبات والتحويلات، كل هذه تضعك أمام حالة متلازمة ومتداخلة من الدراما والكوميديا!
إذا نحن نتطلع إلى مدن إنسانية تتيح ممارسة العدالة والمساواة في تقديم الخدمات، وتضع في أوليات البيئة الحضرية احترام حقوق الإنسان في الطريق والأماكن العامة، وتلبي متطلبات جودة الحياة، وتسهم في الرضا الوطني.. عندئذ ليس أمامنا سوى تبني ما يطرحه المؤلف لأجل الانتقال إلى حقبة نوعية جديدة لإدارة المدن، و(تغيير ثقافة) القطاع البلدي، وبناء صورة ذهنية إيجابية جديدة.
هذا الكتاب الثري يقدم لنا الفرصة لأن ننشغل بما ينفعنا، ويعطينا الأدوات لنكون والحكومة جزءاً من الحلول التي يحتاجها مستقبل مدننا، وهذا ما أراده المؤلف. إنه يقدم تجربته لتكون منطلق الحوار الجاد، وحالة دراسية لنتعلم منها، وهذا مجال حديث الأسبوع المقبل، بحول الله.