د.فوزية أبو خالد
عادة أتجنب استهلال مقالاتي بكلمات مستهلكة مثل «لا بد»، و»يجب»، ومثل «الحقيقة» أو «الواقع»؛ وذلك لإيماني بأن محاولة تقديم محتوى جديد تتطلب محاولة موازية في البحث عن كلمات لم تذبل من كثرة التداول، أو لم تفقد مصداقيتها من شدة التمسح بها. وقد أفشل أحيانًا، وقد يخيل لي أنني أنجح أحيانًا. ومن تلك الكلمات التي أتجنب الوقوع في فخاخها أيضًا كلمات مثل «قطعًا»، و»حتميًّا»، و»بدون شك»؛ فهي كلمات تخالف - كما أخال - تقلب الطبيعة البشرية، ومدها وجزرها، خاصة في ضوء القراءة السيسيولوجية النقدية للمجتمعات التي تشير بمعالم ميدانية وشواهد ملموسة إلى أن المتغير المتكرر والدائم الوحيد في الحياة الاجتماعية عبر تاريخ العمران منذ القراءة الخلدونية الأولى له هو العلاقة الجدلية المتجددة بين التغير والاستقرار.
وفي هذا يبدو أنني بهذه المقدمة أتلمس طريقي إلى التفكير بصوت مشترك في محاولة لأقول كلمة صغيرة، تتحرى الصدق والموضوعية، ما وسعني، في حق التحولات ببعضها الجذري، وببعضها الظاهري، التي بدأ المجتمع السعودي يعيشها منذ مطلع الألفية الثالثة بإيقاع بدا متحفظًا لعقد ونصف العقد، ثم ما لبث أن صار إيقاعًا شديد السرعة، وباتجاهات حادة ولافتة وغير مألوفة سرعة وتوجهًا على معهود المجتمع السعودي.
وفي هذا السياق يمكن القول إن العديد من الدراسات الاجتماعية النقدية اليوم قد قامت عبر عمليات من التراكم المعرفي بالتشكيك إن لم يكن بهدم تلك التنظيرات التقليدية المحافظة والمبسطة تبسيطا مخلاً لحركة المجتمع في الانتقال من مرحلة إلى مرحلة, وفي الانتقال من البداوة إلى التحضر، ومن طبقة إلى طبقة، ومن الجهل للعلم. وعلى الرغم من أن بعض تلك التنظيرات التقليدية تُعتبر من النظريات الأولى المؤسسة لعلم الاجتماع نفسه، كنظرية التطور عند المفكرين الأوائل للعلوم الاجتماعية، مثل أوجست كومت وأميل دوركايم، ولاحقًا ماكس وابر، فإن ذلك لم يمنع الاعتراف بأنه لم يعد تحليل التحولات الاجتماعية ممكنًا بتلك القراءة الأولية التي ترى حتمية انتقال المجتمعات من البسيط للمركب، ومن اللاهوتي للعقلاني، ومن الريفي للمدني، ومن العرفي للقانوني بطريقة آلية، وبالربط الميكانيكي بين الأحداث الاجتماعية والقرارات العليا، وفي التعويل عليها وحدها لتحقيق نقلة في القيم والثقافة وبنى العلاقات الرأسية والأفقية في المجتمع.
إلا أن ما حداني لمثل هذا الاستشهاد النظري هو ملاحظتي بالمعايشة لإيقاع التحولات مقابل ما يظهر من «استخفاف تنظيري» لدى الكثيرين من نخب الكتابة والإعلام بوجه خاص في قراءة التحولات الكبيرة والكثيرة والسريعة التي يشهدها مجتمعنا اليوم. فنرى منها ما ينحو إلى تمجيد وإن كان مستحقًّا لهذا المنجز أو ذاك إلا أن المبالغة فيه تكشف عن توظيفاته كعملية استجداء شخصي صريحة لمنصب أو لحظوة, إن لم تتحول لعملية تفريط في الصدق يؤدي إلى ذم بقصد المدح، كما نرى منها ما يكتفي برؤية أحادية عاطفية، ترى في «التحولات» إما انتصارًا لها أو هزيمة لغيرها. هذا بالإضافة إلى ربط بعض تلك الطروحات ربطًا ميكانيكيًّا بين التحولات وقرارات إدارية أو سياسية، بما يجرد تلك القرارات نفسها من طموحها في إحداث نقلة عميقة في الواقع الاجتماعي، وفي العلاقات والقيم، وبما ينتج منه من تمييع الحاجة المعرفية للبحث في التراكم الجدلي للتحولات والتفريط في ضرورة تقييم المجهود الاجتماعي المبذول قبلها تمهيدًا لها، والجهد الاجتماعي المطلوب بعدها لتجذير تلك التحولات، وتحويلها من قرار سياسي مهم إلى عملية نوعية من التغير الاجتماعي الاستنهاضي على مستوى قيمي وثقافي.
وفي هذا أرى، أو بالأحرى أجتهد لأرى، أنه هذا هو الوقت الذي نحتاج فيه - كما لم نحتاج في عهد سابق - إلى طرح الأسئلة، وإعمال البحث، وتحميل مؤسسات العلم كالجامعات مسؤوليتها التحليلية والاستشرافية بدل تحييدها أو قصر عملها البحثي على مجالات انتهت صلاحيتها. كما أن هذا هو الوقت لرفع سقف الكلمة وللتفكير جديًّا في فتح المجال لتأسيس بيوتات الفكر والخبرات المتخصصة المستقلة مثل مخازن التفكير (ثنك تانك think tank) ومراكز البحوث القادرة حقًّا على قراءة الواقع، وفهم بوصلة التحولات، والمساهمة في رسم السياسات, وعلى قول كلمة مدروسة وشفافة في حق الوطن، وفي حق القيادة، وفي حق المجتمع بجميع أطيافه.
ليس من السهل أن نترك أمر إدارة هذه التحولات غير المعهودة وأمر إخراجها إلى شركات وبيوتات خبرة وإعلام أجنبية، وإن أتى بعضها بأسماء سعودية عاطفية فإنه لا يعمل إلا بمحركات غربية جشعة. والشيء نفسه يمكن أن يقال بأنه ليس معقولاً أن تُؤخذ عجلة التحولات المرتجاة لأجيال عدة في اتجاهات تسطحية أو استهلاكية محضة. ولا أظن أن المفترض اليوم، خاصة من أصحاب الرأي الوطني الصادق، هو مجرد اللهاث خلف تلك التحولات لأخذ صورة بجانب مشهدها العام، بل المطلوب البحث المعرفي المخلص في طبيعتها، وفي ما يجعلها مصدرًا قويًّا وأمينًا نحو نهضة حقيقية بالدولة والمجتمع.
إن مثل هذه المواقف «المستسهلة لمسؤولية اللحظة التاريخية»، أو «المنتفعة منها»، وخصوصًا لو جاءت من بعض أصحاب الأقلام الذين لا يملكون - بحسب المفكر الاجتماعي الفرنسي بوردوا - من الرأسمال الاجتماعي إلا شرف الكلمة، وقلق المعرفة، تكون مواقف موجعة وباهظة لمجتمعهم ولقيادتهم، وليس لهم شخصيًّا وحسب. وهذا مما يذكّرنا بكتاب المفكر والروائي الفرنسي جوليان بندا «خيانة المثقفين» التي من المفارقة أنها تتخفى في خطاب رطيب عذب أو مائع، وتخفي أحلامًا شخصية ضيقة في كلام فضفاض مضلل عن الوطن وحب الوطن, بينما حب الوطن كلمة مخلصة. ومثلما نحتاج لعصف ذهني للأفكار الجديدة نحتاج لكلمة حب شفيفة في عصف التحولات.