د. نايف هشال الرومي
ينظر الكثيرون إلى التغييرات التي حدثت في العالم -خلال القرن الماضي- على أنها غيرت وجه التأريخ الحديث، إلا أن تغيرات القرن الواحد والعشرين الذي نعيش بداياته سوف يكون لها طابع وميزة لم تكن في القرن الماضي، وستتجاوز حدود المعقول؛ متمثِّلةً في سرعة الاتصالات والتقنية والمعرفة والمعلومة. في الماضي كان الحديث عن القوة الصناعية، وامتلاك الموارد الطبيعية أنهما مصدر رئيس، ومؤشر مهم في تصنيف الدول، إلا أن هذه المؤشرات لم يعد لها ذلك التأثير كما كان في السابق؛ حيث ظهرت دول لا تملك تلك المقومات ولكنها أصبحت من الدول المتقدمة؛ بسبب تملكها للتقنية والمعرفة.
نعايش اليوم عصر العولمة والمعلومة المتجددة والتقنية المتطورة والمتغيرة، بشكل يجعل متابعتها ليس أمرًا يسيرًا، فحسب تقديرات موقع InternetWorld State فقد قفز استخدام الإنترنت من عام 2000م إلى عام 2020م أكثر من 1000 في المائة؛ حيث وصل عدد مستخدمي الشبكة العنكبوتية حتى تاريخ أكتوبر 2020 إلى 4.700 أربعة مليارات وسبعمائة مليون شخص، أي ما نسبته 60 في المائة من سكان العالم.
منذ بدء ثورة التقنية والمعلومات والمعرفة والمجتمعات تتغيّر، ليس بشكل سريع فقط, بل بشكل جذري، ثورة جعلت العالم يعيش تحولاً كبيرًا في مختلف جوانبه؛ حيث يُعَد الذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence, والبيانات الكبيرة Big Data, والواقع المعزّز Augmented Reality, وإنترنت الأشياء Internet of Things والروبوتات من المؤشرات الرئيسة للثورة التقنية والمعرفية، هذه المؤشرات تقود إلى عالم مترابط بشكل كبير، يصاحبه تحدِّيات كثيرة، وفرص غير مسبوقة، ومعوِّقات عديدة. هذه التحديات والفرص تتطلَّب استجابة سريعة وقوية من متخذي القرار؛استجابة تعزِّز اتخاذ خطوات تطويرية، مع تحسين جودة أداء المؤسسات العامة للدولة.
إن النمو الهائل للمعرفة والتقنية -أو ما يسمّى «الانفجار المعرفي التقني»- أدى إلى تغييرات سريعة وعميقة؛ قادت إلى تغييرات جذرية في طريقة حياتنا الاجتماعية؛ حيث نجد -اليوم- أبناءنا يعيشون في عوالم افتراضية من خلال التقنية -على سبيل المثال، - وتعليمنا وتعلُمنا؛ حيث أصبح التعليم عن بُعد، والتعلُّم الذاتي، نماذج لطرق تعلُم جديدة، وأيضًا طريقة عملنا وأعمالنا.
يعيش العالم اليوم في اقتصاد متغير، يُدار بالتقنية يطلق عليه الاقتصاد الرقمي، وقوده المعلومات، وتُسيره المعرفة. كل هذه التّغييرات تتطلب منَّا تغييرًا في طريقة التفكير والتخطيط والسرعة التي يتم بها التعامل مع مثل هذه القضايا.
كل هذا يبيِّن أن على متخذي القرار، ورجال الأعمال، والمؤسسات العامة وخاصة مؤسسات التعليم ومراكز البحوث العلمية إدراك تلك التّغييرات الجذرية، والتعامل معها باستراتيجيات، وآليات، وأدوات تستثمر الفرص، وتواجه التحديات والمعوِّقات، وتُحقِّق التَّحوّل، أخذًا في الاعتبار أن الطريق إلى التّحوّل لن يكون سهلاً، ولا يعني - بأي حال من الأحوال- القيام بإزالة القشور فقط، بل لا بد من التعامل مع الجذور، بمعنى آخر: عدم القيام بإجراءات سطحية دون التعمُّق في التغيير وتحريك الجذور لتحقيق التَحوُّل.
إن الواقع اليوم يبين أن الكثير من المؤسسات العامة تعاني نظام موارد بشرية لا يساعد على تحقيق التَحوُل المطلوب؛ إذ هو نظام قائم -أساسًا- على الضبط والسيطرة، والتي هي أحد الأسس العميقة للبيروقراطية السلبية.
كما تعاني مؤسسات الدولة من مديرين همُهم الأول المحافظة على نمط السيطرة وتكريس البيروقراطية. والبيروقراطية ليست سيئة على إطلاقها، ولكننا نتكلم هنا عن «البيروقراطية السلبية» التي تساعدهم في المحافظة على وظائفهم وحمايتها، وبحثهم الدائم عن صلاحيات أوسع من خلال مبرِّرات وهمية، واللعب على عامل الوقت.
من هذا كله: يمكننا القول إن محاولات التَغيير والتَحوُل للأفضل دائمًا ما تولِّد مقاومة من جانب «البيروقراطيين التقليديين»؛ مما يعطينا تفسيرًا لواقع بعض مؤسساتنا المتدني، وعجزها عن أداء مهامِّها ومواكبة التحوُل السريع والتغيير الإيجابي.
من المؤكد أن العالم -اليوم- يشهد عملية تحول شاملة، وعلى كافة المستويات؛ من خلال أربعة معطيات رئيسة، هي:
أولاً: الوقت أو الزمن
حيث إن له أهمية وقيمة كبيرة؛ فهو تحوُل يسير بسرعة عالية جدًا، ليس في مجال واحد، بل في كافة المجالات، تحوُل يندفع بسرعة عالية في زمن الإنترنت ووسائط التواصل الاجتماعي والفضاء المفتوح.
إن الراصد لحياتنا الاجتماعية والاقتصادية والمالية؛ يجد أن سرعة التّغيير واضحة وجليّة؛ بحيث لو كنت ممن لا يشاركون في برامج التواصل الاجتماعي؛ فستجد نفسك معزولاً عن العالم؛ ستجد نفسك في عالم، والمحيطين بك في عالم آخر. كل هذا يعطي دلالة مؤكَّدة على أن الوقت في عالم التحول -الذي نشهده اليوم- له قيمة عظيمة، وإنَّ تجاهل هذا الأمر يتسبّب في خسائركبيرة وكثيرة.
مما سبق؛ يتبادر سؤال إلى الذهن، هو: هل مؤسساتنا العامة تدرك أهمية عامل الوقت في زمن التحولات السريع بمبادراته وبرامجه؟
الجواب: إن واقع عدد كبير من مؤسساتنا يدل على أنها لا تدرك هذه الأهمية، ولا تعي قيمتها، وخير مثال على ذلك:
إن كثيرًا من المديرين -وليس القيادات- في تلك المؤسسات، ما أن يتولى الواحد منهم إدارة أي مؤسسة عامة إلا ويسعى إلى تغيير استراتيجية المؤسسة ورؤيتها - حتى وإن كانت الاستراتيجية السابقة جيدة وصالحة للاستمرار-، بل ربما يقوم بإعادة هيكلة مؤسسته، يفعلون ذلك عن قصد؛ بهدف اللعب على عامل الوقت؛ لعدم قدرته على الإنجاز أو مواكبة تلك التحولات السريعة، ومن أجل المحافظة على وظيفته.
هذه أمثلة من الواقع؛ تعطي دلالة واضحة أن الوقت ليس له أهمية لدى الكثيرين من أولئك المديرين التقليديين، كما أنه يعطي تفسيرًا لواقع مؤلم؛ حيث نجد رأس الهرم ينطلق بسرعة هائلة، مبتعدًا عن البيروقراطية السلبية والروتين اليومي، ومستخدمًا للتقنية وبرامجها دقيقة العمل سريعة الإنجاز؛ لتحقيق التَحوُل المنشود، بينما عدد ليس بالقليل من المديرين نجدهم تقليديين ويتحركون ببطء، ويعيشون في نمط إداري قديم الأفكار والأدوات.
إن الدول التي أدركت هذا الأمر -منذ سنوات- نجدها الآن تجني نتائج التحول -ببرامجه وأدواته-. لقد استطاعت تحقيق التقدم والتطور لمجتمعاتها، وأصبحت في وضع القيادة, وقادرة على تحقيق التنافسية, بل وصلت إلى الصدارة في مجالات كثيرة.
ثانيًا: تغيُّر مفهوم العمل والبعد المكاني
نحن نعيش -اليوم- ما يسمى بذوبان البُعد المكاني، وخاصة في مجال الأعمال أو الوظائف؛ إذ نشهد وظائف ليس للبُعد المكاني فيها تأثير؛ حيث إنه مع الثورة التقنية المتطورة جدًا -والمستمرة في التطور- أصبح «الاقتصاد الرقمي» و»مفهوم العمل» لا يعترفان بالحدود المكانية؛ بل بينما كان العالم الاقتصادي -ولا يزال- يتحدث عن انتقال الأعمال إلى أماكن تكون فيها اليد العاملة رخيصة، بدأ الحديث -في وقتنا الحاضر- عن مفهوم آخر، ألا وهو استبدال الإنسان بـ»الآلة» للقيام بالأعمال، ولعل أوضح مثال على ذلك ما نراه في بعض المحلات التجارية؛ حيث تقوم الآلة بدور الإنسان عند نقاط البيع، بل إننا نقوم بجمع حاجاتنا، ثم نقوم بتسعيرها إلكترونيًا، وندفع قيمتها إلكترونيًا، دون وجود موظف يقوم بهذا العمل -كما في السابق-.
وفي دراسة لـ»ماكينزي» 2017م تبين أن 60 في المائة من الوظائف الحالية يمكن تحويلها لتكون آلية، كما أن نفس الدراسة تؤكد أن المهن والوظائف ستمر بتغييرات كبيرة في السنوات القريبة المقبلة.
ثالثًا: الثورة التقنية غير المحدودة
لقد غيّرت «الثورة التقنية» مفاهيم كثيرة في حياتنا، وخاصة مفاهيم العمل. هذه التقنية لم تغيِّر مفهوم العمل العابر للحدود، ولا مفهوم العمل بأجر، أو العمل بدون أجر كالتطوع مثلاً، بل جعلتنا نقوم بالأعمال نيابةً عن صاحب العمل بدون أجر.
إن الثورة التقنية المذهلة -اليوم- سهّلت حياتنا اليومية بشكل كبير، ووفَّرت لنا الوقت والجهد الكبير،
هذه الثورة التقنية المذهلة تصاحبها ثورة في الفضاء؛ حيث يملأه الكثير من الأقمار الصناعية التي غيرت مفهوم الاتصال والتواصل، وجعلت من سرعته المذهلة حقيقة، بعد أن كانت حلمًا. إن تأثير الثورة التقنية والمعلوماتية لن يكون على الإنسان وثقافته فقط، بل إنها خَلقت، وستخلق موجات كبيرة من التأثير والتحول الاقتصادي والصناعي؛ حيث سيكون لـ»الذكاء الاصطناعي» Artificial Intelligence وإنترنت الأشياء Internet of Things والروبوتات Robots دور كبير في التّحوّل نحو اقتصادات رقمية كبرى دور الإنسان فيها محدود. إن التعامل مع تلك الموجات الكبيرة يتطلب استعدادًا مستقبليًا مميزًا في مؤشرات عدة، أهمها: الاستعداد التقني وفق المؤشرات العالمية، والاستعداد بمهارات المستقبل.
** **
- متخصص في التخطيط والتطوير التعليمي، محافظ هيئة تقويم التعليم سابقاً، وعضو مجلس الشورى في دورته السابعة