سعيد الجابر
لدى عديد من دول المنطقة فوبيا من إدارة أي رئيس أمريكي جديد يُطل برأسه على المكتب البيضاوي في العاصمة واشنطن. الريبة والتوجس على الدوام تُخيم على الرجل -أياً كان-، من خلال المناظرات التي تجمع بينه وبين سلفه. لكن في دول الخليج الوضع مختلفٌ بعض الشيء. باعتبار أن الطرفين يجدان في منطقة الخليج إما وسيلةً للدفاع عن سياسات معينة، أو هجوم في الموضع الآخر. ذلك لأهميتها عن غيرها بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية. فالنفط والطاقة أحد أهم أولويات الشارع الأمريكي. لذا تلعب تلك الدول دوراً كبيراً في عمليات الانتخابات الرئاسية الأمريكية من حيث لا تعلم. وهذا ما تبلوره زيارات الرئيس بعد الانتخاب التي في غالبها تبدأ من الخليج. في أغلب الأحوال تكون الرياض أولى محطاته.
في حقبة الرئيس دونالد ترامب الجميع يتذكر كيف كانت المنطقة برُمتها قلقة من وصوله للبيت الأبيض. لكنه سرعان ما بدد تلك المخاوف بإلغاء الاتفاق الذي أبرمته الإدارة التي سبقته بالإضافة إلى دول أوروبية دون الحصول على أي ثمنٍ من إيران. في الحقبة التي بدأت مؤخراً مع وصول جو بايدن للبيت الأبيض عادت المخاوف إلى وضعها الطبيعي. يعتقد البعض أن الرئيس الجديد من رجال أوباما. وينعتونه بشكل واضح بهذا الوصف. وهذا بزعمي غير صحيح، إذ أتصور أن في الولايات المتحدة الأمريكية لا أحد يُحسب على أحد. ولا رجل يعمل كرجل لأحد. الدولة تحكمها مؤسسات وأحزاب. بالضرورة تُراعى مصالح تلك المؤسسات والأحزاب من قبل الرئيس مُجبراً لا مُخير. والدولة العميقة تستفيق في حالات الحذر حين تخطي الخط السياسي العميق للولايات المتحدة.
ما أردت الحديث عنه هو الاتفاق النووي الإيراني الذي أبرمته دول مجموعة 5+1 مع طهران. ذلك الاتفاق الذي أعتقد أنه كان مكافأةً لجمهورية الولي الفقيه، أكثر من كونه رسم خطوطاً حمراء، تمنع على أقل تقدير تخصيب اليورانيوم الإيراني، الذي يعمل على اتساع البرنامج النووي ذي الأغراض المشبوهة. فقد منح الاتفاق الحق لإيران زيادة مدة إنتاج المواد الانشطارية التي تلزم في تصنيع قنبلة نووية من شهرين إلى عشر سنوات. وفرض خفض أجهزة الطرد بنسبة الثلثين خلال عشر سنوات، ومنحها الحق بتشغيل 5 آلاف جهاز تخصيب خلال 15 عامًا. بالإضافة إلى خفض المخزون الإيراني من اليورانيوم الضعيف التخصيب من 10 آلاف كيلو إلى 300 كيلو على مدى 15 عامًا، وعدم بناء أي منشآت نووية طوال 15 عامًا!
كان موقف الدول الأوربية بالإضافة إلى روسيا بعد أن مزّق ترامب الاتفاق، يخشى من أن يمنح ذلك الإلغاء ذريعةً لطهران للتخلي عن تعهداتها التي تعتبر في أساسها «تعهدات هشّة». والأهم من ذلك أن الاتفاق المبرم لم يتطرق لا من بعيد ولا من قريب إلى منع طهران من تغذية الإرهاب في المنطقة ودعمها لميليشيات مصنفة إرهابياً في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا والخليج. في الحقيقة الأمر أشبه بمنح قاتلٍ عربيد سلاحاً أكثر فتكاً وهو في الأساس يعيث في الأرض فساداً، ويمنعه من القتل في وقت معين، ويُخول له استعادة سفكه للدماء في وقتٍ لاحق. في ذلك منتهى التناقض وعدم مراعاة مصالح الدول القريبة من إيران التي تعتبر حليفةً لدولٍ أبرمت اتفاقاً بلا ثمن مع ولاية الفقيه. الأدهى أن دول الخليج تفاجأت من ذلك الاتفاق ولم توضع في صورته من باب فرض الأمر الواقع. وهذا بالمعنى السياسي أقل ما يمكن وصفه بـ»خديعة الحليف».
ما دعاني للكتابة عن هذا الملف، هو تردد أنباء حول إمكانية إعادة ذلك الاتفاق إلى موضعه الطبيعي. وهذا سيجلب أخطاراً لا تُحمد عقباها على المنطقة والعالم بأسره. كيف ولماذا؟! لأن إعادة الاتفاق لوضعه الطبيعي سيخلق من المجرم، مجرماً أكبر. باعتباره سيمنح الجمهورية الإيرانية قوةً أكبر مما مضى قبل إلغائه. وهذا ما سيعود وبالاً على المنطقة والعالم. حتماً ستتخذه طهران منطلقاً للقوة، لتعود للعربدة التي لم تنكفئ في أساسها، لكن بشكلٍ أشرس. يجب علينا استدراك أن طهران تعاني من غياب قاسم سليماني عن المشهد السياسي، وهو ما خلق ضعفاً في المشهد الإيراني، ومن هذا المنطلق ستقود الدولة حملات شرسة لاستعادة وهج إجرامها لتعويض غياب سليماني عن المشهد، استناداً إلى رافعة عودة الاتفاق النووي لحالته الطبيعية، بعد أن تم إبطال العمل به من قبل الرئيس الأمريكي السابق.
ما يفترض أن يفهمه الجميع أن العودة للعمل بالاتفاق النووي مع الجمهورية الإيرانية بصرف النظر عن أنه يعتبر خطأ تاريخياً كالخطأ التاريخي الذي وقعت به دول 5+1 حين صافحت أكثر دول العالم إرهاباً، فهو بمثابة إعادة الروح لوحشٍ هائج ستتسع رقعة خطرة أكثر من السابق، كونه سيُترجم ذلك هو ومحوره ومن يسير في فضائه، ضمن انتصاراته على الآخر.
أعتقد أنه بات ضرورةً أن تتولى دول الخليج إدارة حملةً من خلال وزراء خارجيتها واللوبيات النافذة في الولايات المتحدة الأمريكية، للتوعية بخطورة مكاسب تلك الدولة المجرمة وخسارة المنطقة من إعادة العمل بالاتفاق. والأهم، إدارة ملف تصحيح مفاهيم النخبة الأمريكية، بأن الخليج ليس تابعاً لأي إدارة أو حزباً بعينه في واشنطن. وأن على الجميع احترام خياراته وقراراته، كما يحترم الخليجيون في المقابل خيارات الأمريكيين. فخيارنا الأساس أن يُخيم السلام على منطقتنا وينصرف الجميع إلى التنمية. لن يتحقق ذلك دون تقليم مخالب إيران. هذا قدَرُنا، ونحن نؤمن به، لنعيش بهدوءٍ وسلام.