سام الغُباري
اخترقت بجسد ضخم مثل مصارع فقد اتزانه العضلي جموعًا كثيفة من أجساد مصرية، تُلقِي بالها وأسبالها على أساور جسر النيل. كانت المربعات الخشبية المضيئة لتحسين صورة الشخص متأبطة على أذرع المصورين الهواة، وعلى كل عمود إنارة فتى وفتاة، ولهجة حب تتصاعد مثل بخار الماء بينهما، أراها بحواسي السبع.
.. وأمضي وحيدًا
أنزلق إلى النيل عبر ممر أسفلتي صاخب، أضواء السيارات اللامعة وأصوات الناس، وسائق أجرة يناديني: «مالك يا عم إنت وحداني وألا إيه». فأبتسم..
.. وأمضي وحيدًا
أجرب فكرة تعذيب رجلَيّ بالمشي المتصل، ثم أسقط وسط صحن مملوء بالكشري، وأعود معاتبًا نفسي الأمّارة بالأكل، ألا تأكلي، وأعد نفسي: مرة أخرى لا تفعلها يا رجل، وأنكث وعدي..
.. وأمضي وحيدًا
من «الدقي» إلى «التحرير» حفظت هذا المسار صعودًا بين جسرين، ونزولًا أمام شعب لا يتوقف عن الحركة، أناس في كل مكان، وبين تلك الجموع تتقافز وجوه يمانية، أقبض عليهم في الطريق إلى «مطعم الخطوة الشعبي»، اسم مستفز لمطعم يقدم «الفحسة» ملتهبة على صوان مفروش بأكياس بلاستيكية طويلة.. أتصارع مع اللهب، وأغمره في إناء «السحاوق»، ثم ألتهمه بفم جائع نهم..
.. وأمضي وحيدًا
أقول لنفسي: المدينة التي لا ترتمي آخر ليلها منهارًا من التعب لا يمكن أن تتعرف عليها. وأستغرب كيف لسائق السيارة أن يعرف كل تفاصيل الجسور والأحياء في مدينة ضخمة مثل هذه؟
* وأتذكر أني لم أحفظ شوارع «ذمار» رغم أني كنت من هواة التسكع طوال 3 عقود، أمضيت نصفها في شوارعنا المليئة بالأنفاس المتهكمة، وأعزو الأمر إلى خلل دماغي لا شفاء منه.
وأمضي - مثل عبدالحليم - في كل طريق وحيدًا، والموج الأزرق في النيل يناديني نحو الأعماق، وأنا لا أقدر على الغوص، وحولي تتكرر مشاهد الفتية مع «حبيباتهم»، ورائي، وأمامي، وعن يميني ويساري، وصوت حوافر الخيل تمضي منكسة مرهقة، تسوق معها النفايات، أو تحمل على عربتها بعض الأحبة الراقصين لأغاني «حمو بيكا».. لم تصهل الخيل، كلها صامتة مثل القناديل المعلقة على جيدها، يعتريها غضب تدفنه عيونها المتعبة من الجري كل صباح لإمتاع الناس وإسعادهم.
* وأهرب إلى «البراجيل» حيث الريف الحقيقي، صوت أنابيب الماء تحفر بطريقتها البدائية نبعًا من مياه البئر، وبقايا نيل قديم مرّ من هنا، وحوله مساحات شاسعة من الخضرة، ونسيم مدينتي يقترب حتى أكاد أشعر بأني في «المصلابة» بالقرب «جامع عبيلة»، وأتذكر أيام الفجر الصاخبة يوم كنا نهرول إلى مصافي الماء في ناحية الحمامات اليسرى عُراة إلا ما يستر عوراتنا، نقفز وسط بركته الباردة، وتتوالى شهقات الصدمة بأصوات الارتطام الصاخب بالماء، وتعلو ضحكاتنا البريئات مع حذرنا من غضب سادن الجامع إذ عبثنا ببركاته، ونرتدي ملابسنا على عجل، ثم نعدو للصلاة مبللين، نتضاحك خلف الإمام، ثم ننفجر في منتصف الصلاة ونهرب..
نهرب معًا إلى مطعم «عصبة» حيث الصباح الدافئ الطيب مع اللحم المفروم وأكواب الشاي الأحمر اللذيذ، وخبز «الروتي»، ومتعة الأكل بعد مساء لا أذكار فيه ولا صلاة، بل القات والنميمة وقراءة الروايات وقصائد أحمد مطر..
.. وأمضي وحيدًا..
أتذكر أنه كان لي أصدقاء، ثم صرت وحيدًا، أضحك رغمًا عني، ولا أستطيع أن أجلس مع أحد دون أن أبث له أحقاد 6 سنوات من الهجرة القسرية..
لكني سأعود ذات يوم؛ لألتقي الأصدقاء المدفونين مرة أخرى، سأزورهم إلى قبورهم وأقبيتهم، أفتش عنهم وسط ركام العنصرية الحوثية حتى أعثر عليهم، وأعلمهم أن الحرية تعني كل شيء.. كل شيء وإن لم يكن لديك أصدقاء..
** **
- كاتب وصحفي من اليمن