عطية محمد عطية عقيلان
كانت تغطية الانتخابات الأمريكية بين مختلف المحطات العربية والإعلاميين على مصراعيها لجذب المشاهد، وتأكيد المصداقية والشفافية والنزاهة؛ فكانت التحليلات على مدار الساعة، حتى في وسائل التواصل الاجتماعي والمجالس الخاصة بين الزملاء لا تخلو من الحديث عن هذه الانتخابات وتحليلها، وأصبحنا جميعًا خبراء سياسيين في الانتخابات الأمريكية والدستور، وبعضنا لم يظهر من استراحته أو مدينته منذ سنوات، لكن من نقم تويتر أنها أتاحت الفرصة للجميع لإصدار النظريات والتحليلات وإطلاق الأحكام في مشهد سيريالي تراه، محللين في كل مجال بدءًا من محللي الأسواق المالية، وما سببوه من كوارث للمساهمين، مرورًا بمحللي القنوات الرياضية وبعض إعلامييها في مشهد لا يختلف عن كوارث المحللين الاقتصاديين. فتم حفظ كم معلومة، والدخول على تويتر ومنصات التواصل، والاستعانة بشلة الفزعة لتعزيز تحليلاته من المتعصبين والمؤيدين. ويزيد الأمر سوءًا عند استضافة أحدهم في الوسائل الإعلامية كخبير أو محلل.
منذ الأيام الأولى في تغطية الانتخابات الأمريكية ظهر محللون على مدار الساعة. ومع كثرة ساعات البث، والنقص في المحللين العميقين، تم استضافة أشخاص فقط لمجرد عيشهم في أمريكا، أو دراستهم فيها، أو إجادتهم اللغة الإنجليزية؛ ليظهروا كخبراء سياسيين، وبعضهم - للأسف - كان سلاحه وحجته القوية علو صوته، وآراءه الحادة، ومعلوماته المغلوطة والمجتزأة من سياقها، وفيديوهات وصورًا بها تلاعب وتعديل لا ينطلي على أي متابع. وظهر بعض المحللين من جماعة «خالف تعرف»، وأصحاب مقولة «عنز ولو طارت»؛ ليصدروا أحكامًا قطعية بفوز مرشح على حساب الآخر دون اعتبار للأرقام وتحليل كبار السياسيين الأمريكيين، وامتلأت شاشات المحطات العربية بمحللين أمريكيين من أصول عربية، ووجدوا ضالتهم في التنظير وإصدار الأحكام، ورسم سياسات الرئيس القادم وتوجهاته وقراراته التي سيتخذها، وكأنهم كانوا معه في الإفطار. ويضاف أيضًا تأكيدهم منقطع النظير للنتائج، واسم المرشح الفائز الذي يتحدد حسب توجه المحطة، وأحيانًا المذيع، وأحيانا حسب توقيت استضافة المحلل الذي يؤمن بأن المشاهد ينسى؛ لذا فإن التجربة الإعلامية لتغطية الانتخابات الأمريكية والمستمرة حتى الآن - في نظري - كانت درسًا في مشاهدة كوميديا سياسية «سياكوميديا».
حقيقة، تبرز حاجتنا العاجلة للعمل الجاد في التطوير الإعلامي، والاستفادة من القامات الإعلامية وتجارب الآخرين لتحديثه؛ ليقوم بدوره كمؤثر إيجابي، على أن يتم وضع ضوابط وحد أدنى للمذيعين والمحللين وفق آلية واضحة؛ حتى لا تستمر ونرى كوارث تحليلية سياسية كوميدية على غرار ما نشاهده في عالم الرياضة الذي تحوّل إلى حلبة صراع وتمجيد إنجازات صوتية دون أثر إيجابي على الرياضة سوى بمزيد من التعصب والتشكيك والتهريج، بما يسيء للدعم المقدم لها من الدولة.
ولا بد أن نؤمن بأن السياسة لها أهلها حال جميع التخصصات، وبها جانب لا يُتاح للجميع حتى ولو كنتَ تجيد اللغة الإنجليزية ولغة الإشارة؛ فلا يمكن التنبؤ والجزم بذلك. وكما قال ونسون تشرشل: «السياسة هي القدرة على التنبؤ بما سيحدث غدًا والأسبوع المقبل والشهر المقبل والعام المقبل. والقدرة بعد ذلك على شرح سبب عدم حدوث ذلك»؛ لذا عزيزي المتابع والمحلل هدّئ من انفعالك وتشجنك وأحكامك القطعية؛ فالسياسة هي فن التلون، ورأيك لن يؤثر في الناخب الأمريكي وسياسة بلاده؛ فالموضوع أكبر من الإلمام به والاحاطة به.