أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
قال صاحبي، المنشغل أبدًا بتلك الشُّبهات على البناء النحويِّ القرآنيِّ التي أدلى بها أحد القمامصة المشلوحين:
- إنَّ القُمُّص «الفِتِك» يعيد سرد ما يرد في كتب التراث حول قوله تعالى: «لـكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ، والْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، ومَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ، والْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ، والْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، والْمُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ، والْيَوْمِ الْآخِرِ، أُولَـئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا». (سورة النساء: 162). معيدًا شريطًا مكرورًا، قديمًا وحديثًا، يزبد فيه ما شاء، لتنتفخ أوداجه، وتجحظ عيناه.
- هَوِّن عليك! فعاطفته الدِّينيَّة، بطبيعة أحوال أمثاله، لا يمكن أن تُحرِّر عقله من «دغمته»، ولا أن تُعلمِن خطابه. وإنَّما منهاج أضرابه: «عنزٌ ولو طارت!» وما ينبغي أن تكون أنت، في المقابل، مثله. ولكن دعنا نأخذ الموضوع بواقعيَّة لُغويَّة.
- ماذا تقصد بالواقعيَّة اللُّغويَّة؟
- أقصد أن المتأمِّل- وإنْ لم يلتفت هاهنا إلى مصحف (عبدالله بن مسعود)، وما زُعِم من أنَّه كان فيه «والمقيمون»، ولا إلى قولٍ منسوبٍ إلى (السيِّدة عائشة): إن ذلك كان من خطأ الكتَّاب- سيلحظ أن النَّصْب أو الجَرَّ واردٌ في مثل هذا السياق من كلام العَرَب. غير أنَّ من يجهل لغة العَرَب وسعتها، لا تستغرب أن يأتي بالعجائب. ففاقد الشيء لا يعطيه. بل سيظن أنه قد جاء بما لم يستطعه الأوائل!
- كلَّا، بل يدرك ما يفعل، لكنه الدجل الإديولوجي.
- ليكن! فكيف تجيب أنت عن شُبهته عِلْميًّا؟ هنا السؤال!
- كيف؟
- لن نقول هنا بالنَّصْب على الاختصاص، ولا بالجَرِّ عطفًا على الكاف في «قَبْلِكَ»، ولكن بالعطف على «ما»، في عبارة «بما أُنْزِل»؟
- كيف، مرَّةً أخرى؟ الموضوع دخلَ بنا في التعقيد!
- هذا طبيعي. اللغة، ونصوصها أعقد ما في الوجود. وما أودَى بالآخذيها بسطحيَّةٍ إلَّا افتراض أنَّ النصِّ الرفيع بسذاجة البناء في اللسان الدارج، وإنْ كان هذا بدَوره بالغ التعقيد؛ لولا الإلف، ولولا مهارات الذهن الإنساني في التواصل اللغوي. إنَّ «مقيمي الصلاة» -حسب هذه القراءة- لا تعني المؤمنين من البشر، بل هي إشارة إلى الملائكة، والرُّسل. وعليه، فإنَّ ترتيب الآية يصبح بالتسلسل الآتي:
1 - (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ)،
وَ
2 - (الْمُؤْمِنُونَ- [الذين] يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ، وَ[بـ]مَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ، وَ[بـ]الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ)-
وَ
3 - (الْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)،
وَ
4 - (الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)،
= (أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا).
والحديث عن «المؤمنين» في الآية- كما ترى- يتضمَّن أركان الإيمان الخمسة الأولى في الإسلام: (الإيمان بالله، وملائكته، وكُتبه، ورُسله، واليوم الآخر).
- وماذا عن الركن السادس: القَدَر، خيره وشرِّه؟
- إنَّما هذا الركن (الإيمان بالقدَر) تبعٌ لتلك الأركان الأُولى. أليس كذلك؟
- فإذن، لا إشكال نحويًّا ولا يحزنون؟
- ولا يفرحون أيضًا! بل هذه الفكرة منتفية منطقًا، كما عرفنا في مساقٍ سابق. بَيْدَ أن الأمر يتعلَّق بتوجيه الإعراب. وهو، في ما نرى، أن التقدير: «الذين يؤمنون بالمقيمين الصلاة»، أي: «الذين يؤمنون بالملائكة وبالرُّسل».
- ماذا عن التوجيهات الأخرى؟
- تبدو التوجيهات الأخرى ضعيفة، من وجوه:
1 - الاختصاص: وجهٌ ضعيف. وقد كان ممَّن نفاه (الطبري) في تفسيره.
2 - الجَرُّ عطفًا على الكاف في «قَبلك» لا معنى له؛ فكيف يقال: «مِن قَبلك وقَبل المقيمين الصلاة»؟
3 - أمَّا العطف على «هُم»، في «منهم»، فتكلُّف، ينطوي على اضطرابٍ لا يليق بصياغةٍ سليمة، فكيف بنصٍّ كـ«القرآن».
4 - وأمَّا القول بالخطأ في الكتابة، فلا يستقيم، والقوم إنَّما يُردِّدون «القرآن» حفظًا، ما وسعهم الحفظ، منذ نزل؛ فأين ذهب الحَفَظَة؟
- قد يقول لك قائل: يبدو بالفعل أنَّه لم يكن في صدر الإسلام من يحفظ «القرآن» كاملًا، بمن في ذلك الصحابة؛ بدليل ظهور الحاجة إلى جمع سوره وآياته وتدوينه، والاتِّفاق على ما اختُلِف عليه منه. ولو كان ثمَّة حافظٌ للقرآن كاملًا؛ لما احتاج الأمر إلى تشكيل لجنةٍ تجمعه في عهد (عثمان)؛ فما كانت تستدعي كتابته سوى الإتيان بحافظٍ ليمليه كاملًا على الكاتب، كي يغدو مدونًا بين دفَّتي مصحف.
- أجل، لئن صحَّ هذا الاعتراض، وبدا حِجاجًا منطقيًّا، ويشهد عليه تاريخ تدوين «القرآن»، فما يعني التسليمَ بفرضيَّة أنْ قد صار المكتوب سلطانًا لا يُرَدُّ؟! ثمَّ أين ذهبت لجنة الكتابة نفسها وغير لجنة الكتابة؟ أ لئن سها كاتبٌ في حرف، سهت الأُمَّة كلُّها عن لغتها، أو أمضت «القرآن» على ما زلَّت به الأقلام؟! أما كان فيهم من رجلٍ عربيٍّ يستدرك ذلك، أو ينبِّه إلى استدراكه؟ ولو أنَّ شاعرًا أخطأ في بيت، أو خطيبًا لحَن في كلمة، لكان أضحوكة العَرَب، وأحدوثة الدهر، بل لقوَّمَ الرُّواة خطأ لسانه ولحنَه، كما قال (ابن مقبل): «إني لأُرسل البيوت عوجًا، فتأتي الرُّواة بها قد أقامتها». فلقد كانت عصا الرواية بالمرصاد لمن انحرف لسانه في الشِّعر، فكيف مُرِّر هذا الأمر في كتاب الله؟ هذا غير متصوَّر.
- على كل حال، مَن نظرَ في تخريجات النُّحاة، بدا له أنَّه يكاد يكون لكلِّ استعمالٍ نحويٍّ وجهٌ من تخريجاتهم ينفي عنه اللَّحْن! والسبب أن قواعدهم قواعد لهجات مختلفة، وما تلك التخريجات إلَّا محاولات للتوفيق بينها. وفي مقابل ذلك تجد لهم افتراضاتٍ عجيبة، لا تخطر في بال، تُشبِه افتراضات الفقهاء الخياليَّة. مثل نهيهم أن يُجمَع المثنى؛ قالوا: لا تقل: «رَجُلانُون»! أو افتراض أنه يمكن أن يُسَمَّى رجل: (مَتَى)، قالوا: ومثنَّاه: (مَتَيان)، أو يُسَمَّى: رُبَّ! ولكن لِمَ ذهبتَ في فهم معنى «المقيمين الصلاة» إلى (الملائكة)، والأقرب أنهم: «المقيمون الصلاة من الناس»؟
- سؤالٌ وجيه. والأَوجه أن مساحة المقال لم تعد تسمح بالإجابة. فإلى المساق الآتي.
** **
(العضو السابق بمجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود)