عبد العزيز الصقعبي
منذ أن حملتها تلك الأنامل الناعمة، ووضعتها على حامل وسط طاولة صغيرة، وأشعلت الخيط القطني الذي يخترقها من الوسط، عرفت أنها بدأت حياتها القصيرة التي تنتهي بذوبانها. هي تعرف أنها مجرد شمعة؛ ولا بد أن تُوقد شعلتها ليتبدد الظلام بالذات حولها. هي تضيء، وتساعد الناس الأحياء على الرؤية بالظلام، وفي زمن سابق كان الناس غالباً لا يستغنون عنها. ربما هنالك وسائل بسيطة وبدائية للإنارة، ولكن كانت هي مساندًا لها. الآن، وفي زمن الكهرباء، أصبحت رمزاً؛ فهي تمثل عدد سنوات العمر عندما توضع على قالب كيك، توقد، ثم تطفأ بالنفخ مع غناء الجميع وتصفيقهم؛ ليباركوا للمحتفى به بدخول عام جديد من عمره أو عمرها. ولا تأتي المباركة هذه إلا بعد التأكد من إطفاء الشموع.
تلك الشمعة، زهرية اللون، التي اختارتها تلك المرأة بعناية، ووضعتها وسط طاولة صغيرة، لم تكن لاحتفال عيد ميلاد، بل محاولة للانتقال من زمن واقعي إلى متخيل. لم تكن الشمعة وحيدة على الطاولة، بل محاطة بباقة من الزهور، وطبقين فارغين، وكأسَي عصير، ومقعدين فقط متقابلين، حول الطاولة؛ ليشغلهما بعد دقائق - ربما - رجل وامرأة، زوج وزوجة، هي موجودة، وحيدة، تنتظره، وهو هناك، في مكان ما، لا يتضح مطلقاً، وبكل تأكيد لا تعرف الشمعة عنه أي شيء؛ فالشمعة منذ لحظات تعرّفت على المرأة، منذ أن اختارتها من أحد الأدراج؛ لتضعها على الحامل وتوقدها، ولكن لم تلبث المرأة أن أطفأت الشمعة؛ ربما خافت أن تذوب قبل أن يأتي الرجل، وها هي الشمعة تراقب بصمت، وتسمع وقع أقدام المرأة وهي تتحرك، في تلك الغرفة الصغيرة، تتجه إلى المطبخ، قد تعد طعاماً، ولكنها تعود تحمل جهاز هاتفها المحمول، تتصفح الرسائل، لا جديد. إحساس يوحيه الصمت والوجوم، المرأة لا تبتسم، لا تترنم بأغنية، هي وحيدة، ولا مجال أن تتحدث، وهاتفها يأبى أن يدفعها للحديث، ربما لا رغبة لديها أن تتحدث مع أحد، فقط تريد أن يأتي ذلك الرجل الذي قد يكون غريباً عن هذا المكان، أو أنه هجره، أو بصورة أدق غادره، وقد يعود، هي تأمل ذلك. مقعده شاغر، ومقعدها تجلس عليه للحظات، ثم ما تلبث أن تتذكر شيئاً، تقوم وتتجه لتنفيذ ذلك الشيء أو جلبه. في إحدى المرات عادت بعد أن وضعت قليلاً من العطر، رائحته أصبحت تعبق بالمكان، هي حريصة على رائحتها. كان بإمكانها إحضار شمعة معطرة، لتعطر المكان، وتهبها شعورًا خاصًّا. الإضاءة خافتة قريبة من الظلمة، ربما رغبة من المرأة أن يتوهج ضوء الشمعة، ولكنها لم توقِد الشمعة بعد. تتأكد من الوقت، صمت مطبق، تفكر أن تستمع لأغنية عبر هاتفها المحمول، تغير رأيها، محتاجة لموسيقى هادئة، كهدوئها في هذه اللحظة، تفكر مرة أخرى أن توقد الشمعة، وتستمع للموسيقى، لتكن السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، موسيقى حالمة وجميلة، أطلق عليها البعض أنشودة الفرح، ليس هنالك فرح، ولا يوجد حزن أيضاً، بل شيء بين الاثنين، قد لا تعيه تلك المرأة. الشمعة أشبه بالراقصة وسط الطاولة، تتأملها المرأة بعد أن أشعلتها بعود ثقاب، تتأمل الشعلة حين يحركها الهواء، هل تفكر بالرقص، ترقص وحيدة، مقعد الرجل لا يزال شاغراً، وهي وحيدة، قد تفكر بمقطوعة موسيقية أخرى، لماذا لا تكون «بحيرة البجع» لتشايكوفسكي، ولتمرس الرقص على أنغامها، لتكن راقصة بالية، قد يكون لها القدرة أن تقف على أصابع القدمين، تمسك بيدها طرف المقعد الشاغر، تتركه، ترفع يدها عالياً، تلحقها بالأخرى، وتحلق بجسدها كأنها تطير، تدور، تتحرك كبجعة بيضاء، تشكل بقدميها زاوية قائمة، إحداها تلامس الأرض دون أن تعتمد عليه، والأخرى تحلق عالياً بالقرب من إحدى يديها؛ لتبتعد اليد قليلاً متجهة إلى الأعلى لتلامس أطراف اليد الأخرى، ولتبتعد عن بعضهما كأنهما جناحا طائر. فستان السهرة الذي اختارته تلك المرأة لا يساعدها مطلقاً على رقصة الباليه تلك؛ تحتاج لمن يمسك بيدها، ويضع يده الثانية حول خصرها لرقصة هادئة. هل تحتاج إلى أن تستمع لموسيقى «قصة حب» لفرنسيس لاي، ربما هي تحتاج إلى أن تستمع لتلك المقطوعة، هي وحيدة، والشمعة تواصل احتراقها، تذوب، حزينة تلك الموسيقى، كذلك تلك المرأة. الشمعة تواصل نزيفها، الشمع المذاب كأنه قطرات دمع، هل تبكي الشموع، دموع حزن، أو دموع فرح، ربما تتذكر تلك المرأة الشموع التي حملها الأطفال في موكب زفافها، لكنها ليست مثل هذه الشمعة، هذه الشمعة وحيدة على هذه الطاولة مثلها تماماً، هي تحترق لتنتهي ككتلة شمع، والمرأة هل تحترق مثلها، هي تعرف أنه لن يأتي، تركها ذات يوم، منذ سنوات طويلة، لم يكن يرغب أن يغادر، ولم تكن ترغب أن يتركها، مثلما اختارت الشمعة لكي توقدها هذا المساء، ثمة من اختارها كشمعة؛ ليجعلها تعاني من عذاب الاحتراق، هي الآن تحتفل وحيدة، تذوب كما الشمعة.