سهام القحطاني
ثمة عديد من الأسئلة التي جالت في ذهني وأنا أقرأ «توريقة» أستاذنا الغذامي «هل للعقل عقل؟» ولا أدري لماذا قفز ابن عربي وجدلية الحس والعقل إلى ذهني حينها.
جرّد ابن عربي العقل من سلطته الحتمية وحوّلها من جوهر إلى وسيلة تحقق وتحقيق لقيمة وفائدة «مصدر الإدراك ومنتَجه».
وهو بذلك يرفض «القيمة المحضة» للعقل التي تخلق الوهم و«يقيدها» بكفايات الحس والفكر، «فالحس أشرف من العقل، فإن العقل إليه يسعى» -كما يقول- وهذه الأفضلية للحس على العقل لأن الحس لا «يوقع في الوهم» بفضل حدوده الإدراكية وانعدام فرصة التقوّل والتخلّق الدلاليين اللذين يوقعان المرء في الوهم عكس العقل المحض الذي يعتمد على المطلق منزوع الحدود وهو ما يوقع المرء في الوهم.
وبذلك يري ابن عربي إن الحس من خلال إنتاجه للعلامات المعرفية عبر الفكر له أهمية في تشكيل الكفاية المعرفية الصادقة التي تحمي العقل من «سلطة الوهم».
ينقسم أصحاب المنطق الفلسفي فيما يتعلق بالعقل مذاهب، فهناك من يرى أنه ماهية مستقلة بذاته، وهناك من يرى أنه وسيلة لصناعة الماهيات الفكرية، وهناك من يرى أنه «أثر فكرى» «لمُثير معرفي»، وهذا الانقسام أوجد لنا سلسلة من مرادِفات العقل؛ وهي مُرادِفات هزت السلطة المطلقة للعقل كجوهر مستقل مثل؛ الفلسفة والعلم والفكر والمعرفة فهي دلالات ورموز مُعادِلة للعقل أو قل عقل وظيفي موازٍ للعقل المجرد.
أما فيما يتعلق «بوظيفة العقل» فحسب أصحاب المنطق الفلسفي فهي تدور ما بين القيمة المرجعية وقيمة التقويم والتقييم والقيمة الإرشادية.
يقول الغذامي «ولكن ماذا عن العقل الذي ليس له مرجعية يعود إليها» وهذه العبارة جعلتني أقف أمام سؤال «هل هناك عقل لا يملك مرجعية؟ سواء أكان مصطلح «الامتلاك» حقيقياً بمعنى «الخلو والفراغ» -الجهل- أو مجازياً بمعنى «الغياب المعرفي» أو «الضلال المعرفي» أو ما أسماه الغذامي في مؤلفاته «العمى الثقافي».
أو ليس العقل مرجعاً في ذاته بالتوثيق والتحقق؟.
إن تركيز الغذامي على «ضرورية المرجعية» يُؤكد على بطلان فكرة «العقل جوهر مستقل قائم بذاته».
لأن اعتماد العقل في فهم التساؤلات العويصة للمستجِد المعرفي على كفاية وكفاءة توثيقاته المعرفية الجاهزة يقود العقل إلى «الغرور» و«الانغلاق على الذات» وهو مع التقادم «يوجِد الفجوة المعرفية» و« تغييب المرجعية المعينة على الاحتكام» ويورث تقليدية الإضلال والضلال المعرفي، ويُنتج وهم «ألوهية العقل» التي تعني الإيمان بقدرة العقل على «التخلق الذاتي»، وهو ما يوقع في «الغرور والاكتمال الذاتي» كما يقول الغذامي.
كما ذكرت سابقاً أن ابن عربي يرى «أن الحس أشرف من العقل» لأنه هو الصانع الأول لبنية العقل، فالعقل قبل الحس فارغ ثم يبدأ بالامتلاء من خلال الحس أو كما يقول -القبول- «فقد علمنا أن العقل ما عنده شيء من حيث نفسه، وأن الذي يكتسبه من العلوم إنما هو من كونه عنده صفة القبول» -ابن عربي-.
إن الحس هو عقل موازِ للعقل المعرفي أو ما يسميها كانط المعرفة القبلية، لأنه كما يذهب الغذامي إمكانية تحوله إلى «معنى مبرهن» يحمل قدرة «الإدراك» وتوطين الوجود في فرديته أو شموليته إلى «حقيقة وواقع».
يتحول الحس إلى كينونة عقلية من خلال مهارات التفكير وهذه المهارات هي التي تُنقي حاصل الحس من الشبهات الوجدانية وتُحرر أدوات الاستنتاج من التقليدية.
تتحول المحسوسات في مستويات مصادرها المختلفة بمجرد أن تُصبح حاصلاً إدراكياً إلى علامات معرفية، وهنا تبدأ وظيفة مهارة التفكير في تفكيك بنية تلك العلامات وتحليلها وصياغة الحقائق من خلالها.
تتكون المعرفة وفق منهج ابن العربي من خلال ثلاثة مستويات الحس والفكر والعقل، والفكر هو المستوي التوسطي ما بين الحس والعقل، فالحس بالنسبة للفكر مموّلِ عبر تصديره للانطباعات والإدراكات ووظيفة الفكر هنا البحث عن صدقية حاصل الانطباع وهو بحث يُرشد العقل إلى طريقه ويحميه من الوقوع في الوهم، أما وظيفة العقل فهي إنشاء العلاقات المعرفية وتأليفها وترتيبها، والفرق بين الفكر والعقل أن العقل يملك القدرة على الأرشفة وعملياتها المختلفة من تجاور وثنائيات وإعادة تدوير للمفاهيم لتتوافق مع مستجدات حاصل الحس وهذه أمور لا يستطيع الفكر القيام بها بسبب ذاكرته قصيرة المدى، ولذا يحتاج الفكر إلى الاستعانة الدائمة بمصدر تمويله الحس وذاكرته المعرفية العقل.
ومنهج ابن عربي من تحليل العقل قريباً من منهج تحليل ديكارت للعقل.
فابن عربي يجعل المحسوسات كعلامات معرفية لتشكيل بنية العقل عبر الفكر، وبذلك يجعل تلك العلامات أوليات لخلق العقل المعرفي، ونقده في آن معاً، في حين أن ديكارت يحول العلامات المعرفية الحاصلة من تفكيك الثابت عبر الشك لتشكيل بنية العقل المعرفي عبر التفكير، وبذلك يُقدم النقد على البناء، وهو ما يجعلنا نقول إن منهج ديكارت كان يقوم على أساس «إعادة بناء المعرفة» أو كما قال عنه الغذامي»عقل العقل».
إن العلامات المعرفية عند ديكارت هي حاصل التفكيك القائم على استدلالية الشك، تلك الاستدلالية التي تُصفّر القوالب المعرفية من ماهياتها، في حين أن العلامات المعرفية عند ابن العربي هي الثوابت الأولية لصناعة المعرفة وهي التي تحمي العقل من الوقوع في سلطة الوهم، أو تحمي العقل من الوقوع في «الغرور والاكتمال الذاتي».
لقد سعى ديكارت صاحب المقولة المعرفية الأشهر في الفكر العالمي «أنا أفكر إذن أنا موجود» إلى «إثبات الوجود من خلال وجوده» باعتباره كائناً مفكِراً مستقلاً وهو اعتبار لا شك أنه أسهم في استباحة كل ثابت.
إن فكرة «العلامة الهادية» ليست بفكرة جديدة فقد بنى القرآن الكريم من خلالها خطاب «المعرفة الهادية للحق والوحدانية والعلم».
إن تهميش أوروبا للعقل في عصور الظلام والتطرف الديني أنتجت كردة فعل في عصر التنوير إلى «تأليه العقل» كرد لاعتباره لِم تعرض له من تهميش، لكن استطاع الجيل الثاني من فلاسفة عصر النهضة أن يُعيد العقل إلى إنسانيته وأصبح الحديث عن قصور نتائجه وفسادها ونقدها نظريه معرفية في ذاته تحت عنوان «نقد العقل» التي أثبتت أن لكل عقل عقلاً موازياً من خلال النقد وإعادة تشكيله كما فعل ديكارت.
وأخيراً فلا شك أن الذي سيتحكم في مستقبل الإنسان المقبل هو «العقل الموازي» الذي سيمثله الذكاء الاصطناعي ليحل العقل المعرفي التقليدي.
** **
* حسابي الجديد تويتر
@SiSqhtani