د. إبراهيم بن محمد الشتوي
عد مؤرِّخو الأدب القدماء والمحدثون أبا عثمان الجاحظ أحد الأصول التي مثلت جهودهم ركيزة أساسية في الدرس النقدي والبلاغي العربي، وانعكست على الدراسات اللاحقة خاصة في كتابيه البيان والتبيين والحيوان.
وقد لفت انتباهي عند التماس الأول معه - ولا يزال- في تعريفه للبلاغة والبيان، سهولة تعريفه للبلاغة، وتحديده حدها، مع أن الدارسين اللاحقين قد أخذوا كلامه بكثير من التبجيل والحفاوة، وجاء فيه: «البيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى وهتك الحجاب دون الضمير...» إلى آخر النص الذي يؤكد فيه على أن مدار البلاغة (أو البيان كما يسميه) يقوم على الفهم والإفهام.
وقد أعدت في ذلك الزمن هذه السهولة والبساطة في التعريف والمفهوم إلى أنها تمثل نوعاً من بدايات التأليف البلاغي، التي تمثل فيها الآراء بذور أفكار ونظريات، ولكنها لا تمثل الدرس البلاغي على وجه الحقيقة الذي اتسع القول فيه وانبسط على نحو ما نراه في كتب تاريخ البلاغة والنقد.
إلا أنني فيما بعد، وحين أنهيت مرحلة الدكتوراه على وجه الخصوص، رأيت أن هذه الآراء تحمل ملامح وجهة نظر خاصة بالبيان والبلاغة تختلف عما صارت إليه الدراسات اللاحقة.
وإذا كان أبو عثمان لم يتسن له أن يضع أصول هذه النظرة ويحدد ملامحها، فإن اللاحقين له كانوا أبعد من ذلك، وإن ظلوا يرددون أقواله بوصفها ركيزة يستندون عليها في أحكامهم، مع أهمية ما قدموا في هذا المضمار.
وأول ملامح هذه النظرة تركيز أبي عثمان على قضية «الفهم والإفهام» بوصفها ركيزة في تحديد البلاغة، وهو ما يعني أنه يهتم بالغاية التي تحققها البلاغة وليس الأداة، أو الوسيلة.
بالإضافة إلى «الفهم والإفهام» لدى أبي عثمان هناك غايات أخرى للبلاغة عند المفكرين الآخرين، كالإقناع عند أرسطو الذي يعد البلاغة أو ما يُسمى بـ»رهيتوريك»، والمعنى الحرفي لها خطابة، ولكن البلاغة عنده بمعنى الخطابة أي قوة الإقناع، وهناك التأثير وهو ما يمكن أن يعد من الإغراء أو الإغواء بمعسول الكلام، وهناك غاية الجمال أي أن يجد القارئ في الكلام تركيباً جديداً جميلاً أو صورة رائقة، أو فكرة غير مسبوقة براقة.
وحين نحدد البلاغة بالفهم والإفهام، فإن الوسيلة لتحقيقها تختلف عن الإقناع أو الإغراء أو الجمال، إذ تقوم على الصحة والخطأ بوصفه أكبر عائق يحول دون فهم السامع، ثم مراعاة أعراف الكلام في البيئة التي يتم فيها القول.
ويمكن القول إن رأي الجاحظ في البلاغة يتلخص بأن الكلام إذا كان واضحاً صحيحاً، متفقاً مع أعراف القول، فقد حقق البلاغة. وهذا التعريف يشبه تعريف عبد القاهر للنظم الذي يتمثل بأنه «توخي معاني النحو وفقاً للأغراض التي يصاغ منها الكلام».
ومع أن «معاني» النحو تحتاج تفصيلاً وبحثاُ، ونقداً أيضاً (لأني أصلاً لا أرى أن هناك معاني للنحو)، فإن بعض الباحثين يرى أن هذا التعريف غير كاف للبلاغة بوصفها أمراً يسيراً يتسنى لكل أحد، ويرى أن المقصود أبعد من الاستواء الظاهر إلى قيام علاقة خاصة بين الألفاظ ينتج عنها دلالات منفردة، فإن الذي أراه أن البلاغة عند الجاحظ ومثله الجرجاني لا تعني أكثر من مراعاة سلامة الكلام من العيوب اللغوية والنحوية، واستواء الألفاظ على قدر المعاني -كما يقول القدماء- وبلوغ الإيضاح والإبانة في الموضوع المراد.
وليس صحيحاً أن يسر هذا المستوى من الكلام، وإمكانية أن يتأتى لكل أحد مانع من أن يكون هو البلاغة، لأن تعقيد البلاغة وحصرها في طريقة واحدة من القول ليس مقصوداً لذاته، وسهولة الكلام لا تنافي البلاغة خاصة وأن صاحب ذلك الحد هو صاحب مدرسة «السهل الممتنع».
هذا السهل الممتنع يظهر في توصيف أبي عثمان للبلاغة فيما نقله عن بشر ابن المعتمر بأنها القدرة على إفهام العامة معاني الخاصة، وتكسوها الألفاظ الواسطة التي لا تلطف على الدهماء ولا تجفو عن الأكفاء.
فالإفهام هنا هو مدار الأمر، وذلك أن إفهام العامة معاني الخاصة بألفاظ ليست ألفاظها ليس أمراً يسيراً كما يظن البعض الذين يحلو لهم النظر إلى البلاغة من هذه الزاوية، لأنه يتطلب بيان معاني الخاصة بألفاظ ليست ألفاظها هي من صناعة المنشئ وهذا يتطلب صناعة خاصة، ثم إن هذه الألفاظ التي ألبست معاني الخاصة ينبغي ألا «تلطف» على الدهماء بمعنى تخفى، فهي من اللغة القريبة إليهم وإن لم تكن بالضرورة من لغتهم، ولا «تجفو» على «الأكفاء» وهم أكفاء الكاتب، بمعنى أنها ليست من السوقي المبتذل.
وهذا الوصف الأخير هو الحد المعياري للكلام البليغ الذي لا ينبغي أن يقصر عنه، وهو «أن لا تلطف على الدهماء ولا تجفو على الأكفاء» مع القدرة على الفهم والإفهام، وهو حد معياري ليس مقامياً بقدر ما هو لغوي صناعي، دقيق لأنه حدد الخاصة بأنهم «الأكفاء» فإذا كان أكفاء الكاتب من الدهماء فليس في الكلام بلاغة.