د.عبدالله الغذامي
هل بإمكاننا العثور على مفكر عظيم لا يتناقض ، وهل هناك عقول بشرية لا تتناقض في رؤاها وأفكارها ، إن من طبع البشر أن يظلوا في حال تغير مستمر وبمثل ما تتغير أحوال الجسد فإن حال العقل تتغير أيضاً ، وهناك رابط وثيق بين ما تستقبله عقولنا وما يستجد عليها وبين ما تتصوره وتحكم به ، والعقل لا يختلف عن النهر الذي هو مجرى كمكون جغرافي ومجرى من حيث ما يجري فيه من ماء والعلاقة بين الممر الجغرافي والماء الجاري علاقة تفاعلية يؤثر بعضها ببعض ، ولو مس الماء الجاري تغير فسينعكس على المجرى بالضرورة كأن يتلوث الماء فيتلوث المجرى تبعا ، ولو شح الماء فسيجف المجرى وتظهر عليه آثار تبعا لدرجة انكشافه ، ومن هنا فإن الأفكار مثلا هي نوع من الماء الجاري ، وحسب جريانها ونوعيتها فإن الذهن سيتغير ، وما كنا نراه من قبل سنرى وجوها أخر له لم نكُ نراها ، ومن هنا ستتغير أحكامنا ، كحال القائد العسكري في ميدان الحرب حيث تتغير خططه حسب ما يطرأ من مواقف ، وفي الاقتصاد تتغير الخطط والاستراتيجيات تغيرات بعضها جذري وصارخ ومناقض لكل الحسابات ، وكذا هي الفلسفة وعلم الفكر والرأي بعامة كما فنون الذوق والمتعة ونسميها عادة بالموضة وهي تسمية تعني التغير والتغيير ، وهذه صفتها واقعيا ومفاهيميا ، والفكر كذلك بما أن الفكر هو ناتج حيوي لما يتزود به الذهن من معطيات تتجدد وتتغير مثل تجدد وتغير الموضة ، وقد لمس هذا برتراند راسل حيث أشار مرارا للموضة الثقافية ، ويقصد بها ما يطرأ على الأفكار من حالات تحول سريعة تجر معها حتى الفيلسوف المترسخ معرفيا في تقاليد المنهجية البحثية والتروي العلمي والبرهانية العلمية.
وفي التاريخ لن تجد مفكرا كبيرا ولا مفتيا عظيما إلا ويكون قد مر على مراحل تقلب فيها فكره بين حال وحال ، ونعرف ما يقال عن الإمام الشافعي وتغير فتاويه ومثله أحمد وابن تيمية ، وقريبا من تاريخنا فإن طه حسين مر بتحولات نوعية لا يقدم عليها إلا صاحب عقل شجاع ، وهذه ستكون موضوعا للتوريقة القادمة بحول الله . على أن التغيير صعب للجماعة سهل للفرد ، فالجماعة متعنتة لأنها مقلدة لرمز ما ، بينما الفرد متمرد ولذا فهو مبدع ويغير مواقفه تبعا لمعطيات تطرأ وتستوجب موقفا جذريا ، وسيسمى بالتناقض تبعا لعدم التنبه للمعطيات وما ينتج عن التغيير من مردود . وفي التوريقة القادمة مزيد قول حول هذه المسألة.