د. عبدالحق عزوزي
جمعت المظاهرات التسعون التي جرت منذ أسبوع في فرنسا دفاعًا عن الحقوق الاجتماعية والحريات، 52 ألفًا و350 شخصًا، وفق وزارة الداخلية الفرنسية. لكن في باريس، شهدت المظاهرات حرقًا لسيارات ومصارف ووكالات عقارية، فيما جرى إلقاء مقذوفات على عناصر الأمن، في مشهد يذكرنا بأفلام الخيال الهوليودية. وسرعان ما فضّت المسيرة بعد تسلل مجموعة مؤلفة من «400 إلى 500 عنصر راديكالي» إليها، وفق مصدر في الشرطة، مشكلين «كتلة سوداء» من ناشطين من اليسار المتطرف. و»الكتلة السوداء» هي أسلوب في الاحتجاج يقوم أصحابها بالتسلل داخل المظاهرات مرتدين الأسود، وبسرعة كبيرة، ليشكّلوا بدورهم «مسيرة رئيسة». كما يقوم هؤلاء بأفعال خاطفة عبر مجموعات صغيرة ويستهدفون خصوصًا مؤسسات تعد رمزاً للرأسمالية مثل الوكالات المصرفية ووكالات التأمين، قبل أن يختفوا بالسرعة نفسها التي ظهروا فيها ما يجعل من توقيفهم أمرًا صعبًا. وفي عدة مدن فرنسية أصيب عناصر من الشرطة والدرك بجروح، بسبب متفجرات.
وهاته المظاهرات العارمة انطلقت في عدة مدن فرنسية تنديداً بقانون أمني قيد الإعداد يسمى بقانون «الأمن الشامل» والذي تلقّى الضوء الأخضر من الجمعية الوطنية؛ ويعد منظمو المظاهرات أن القانون ينتهك الحريات في بلدة تهزه منذ أسابيع قضية جديدة تتعلق بعنف أفراد الشرطة.
وتتناول الاحتجاجات التي تصاعدت إلى أن أثارت أزمة سياسية، ثلاثة بنود من مشروع «قانون الأمن الشامل» تتعلق بنشر صور ومقاطع فيديو لعناصر الشرطة أثناء أداء عملهم، واستخدام قوات الأمن للطائرات المسيرة وكاميرات المراقبة.
ورأت التنسيقية الداعية إلى التجمعات أن «مشروع القانون هذا يهدف إلى النيل من حرية الصحافة وحرية الإعلام والاستعلام وحرية التعبير، أي باختصار الحريات العامة الأساسية في الجمهورية. وتنص المادة 24 التي أثارت كل هذا الضجيج على عقوبة بالسجن سنة ودفع غرامة قدرها 45 ألف يورو لمن سولت له نفسه بث صور لعناصر من الشرطة والدرك بدافع «سوء النية».
وأكدت الحكومة مدافعة عن ذلك أن هذه المادة تهدف إلى حماية العناصر الذين يتعرضون لحملات كراهية ودعوات للقتل على شبكات التواصل الاجتماعي.
إلا أن معارضي النص يؤكدون أن كثيراً من قضايا العنف التي ارتكبتها الشرطة ما كانت لتكتشف لو لم تلتقطها عدسات صحافيين وهواتف مواطنين. ويؤكد هؤلاء أن القانون الجديد غير مجد إذ إن القوانين الحالية كافية للتصدي لجرائم كهذه، لافتين إلى أن القانون الفرنسي «يعاقب الأفعال وليس النوايا».
وما زكى معارضة شرائح كبيرة من المجتمع للنص تزامن كل هذا مع نشر صور كاميرات مراقبة تظهر ثلاثة عناصر من الشرطة يعتدون بالضرب المبرح ولمدة لا يستهان بها على منتج موسيقي من أصول إفريقية.
وحيال موجة التنديد بالمادة 24، سعى رئيس الوزراء جان كاستيكس لإيجاد مخرج من خلال تشكيل «لجنة مستقلة مكلفة باقتراح صياغة جديدة». لكن المبادرة اصطدمت باستياء البرلمانيين من جميع الأطياف الذين اعتبروها إشارة «ازدراء»، ولقيت خصوصاً «معارضة» رئيس الجمعية الوطنية ريشار فيران من «الجمهورية إلى الأمام» (الغالبية الرئاسية). وتطالب التنسيقية بـ»سحب المواد 21 و22 و24 من اقتراح قانون الأمن الشامل وسحب الخطة الوطنية الجديدة لحفظ النظام» التي أعلنت في أيلول/ سبتمبر التي ترغم الصحافيين خلال المظاهرات على التفرق حين تصدر قوات الأمن أمراً بذلك، ما يمنعهم من تغطية الأحداث خلال هذه التجمعات التي تتخللها اضطرابات.
في الصالونات الفرنسية المغلقة والمحدودة بسبب تداعيات فيروس كورونا، هناك حديث عن فقدان الثقة داخل المجال السياسي العام، فلم يعد يثق المواطنون في حكومتهم، ولم يعودوا يثقون في نجاعة الديمقراطية التمثيلية، بل لم يعودوا يثقون في كل الأحزاب السياسية. عندما وصل الرئيس الشاب إلى قصر الإليزيه، صفق له الجميع، فكان يقدم نفسه بأنه «لا من اليمين ولا من اليسار»، وأنه نموذج الطبقة الفرنسية المثقفة. ولكن مع واقع السترات الصفراء والمظاهرات الأخيرة بسبب قانون الأمن الشامل كل شيء تغير. فهناك حالة من الإحباط ليس فقط من حزب اليمين واليسار التقليديين الذين هيمنا على المشهد السياسي في البلاد طيلة عقود، ولكن من كل الأحزاب، فلم يعد الفرنسي اليوم يثق في التوجهات السياسية ولا في ممثليها كما أن الرسالة التي وصلت للجميع هي أن نفاد صبر كل الطبقات في مجتمع صناعي قد يحدث زلزالاً يصعب معه إيجاد حلول ناجعة.