أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: أمَّا مصادر المعرفة عند الفلاسفة والمنطقيين؛ أولها هو النفس في محسوساتها وتجاربها، ثم البديهيات؛ وهي أوائل العقل، وآخرها: مدارك العقل النظرية، المفتقرة إلى البرهان، وهي معرفة النسبة الحاصلة أو اللاحاصلة في كل حمل جوهري، أو حمل عرضي كما يسمونهما، كالنسبة الحاصلة في قولنا: (العالم محدث)، أو اللا حاصلة في قول: «(الرسول شاعر).. قال الإمام أبو محمد ابن حزم- رحمه الله تعالى- في كتابه (الْفِصَل): إنَّ الإنسان يخرج إلى هذا العالم ونفسه قد ذهب ذكرها جملة، في قول من يقول: إنها كانت قبل ذلك ذاكرة، أو لا ذكر لها ألبتة، في قول من يقول: إنها حدثت حينئذ، أو أنها مزاج عرضي.
قال أبو عبد الرحمن: ومعنى هذا الكلام: إنَّ ابن حزم صاحب مذهب مشهور في تأويل قول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ..} [سورة الأعراف/172]؛ وهو القول بقدم خلق الأرواح، وأنها حينما تنفخ الروح في المخلوق ويخرج إلى العالم: فإما أنْ تكون نفسه قد ذهب ذكرها لذلك العهد أولاً.. إلى آخر كلام الشيخ أبي محمد، ثم قال -عفا الله عنه-: إلا أنه قد حصل أنه لا ذكر للطفل حين ولادته، ولا تمييز إلا ما لسائر الحيوان من الحس والحركة الإرادية فقط؛ فتراه يقبض رجليه ويمدهما، ويقلب أعضاءَه حسب طاقته، ويألم إذا أحس البرد أو الحر أو الجوع، وإذا ضرب أو قرص، وله سوى ذلك مما يشاركه فيه الحيوان والنوامي مما ليس حيواناً من طلب الغذاء لبقاء جسمه على ما هو عليه ولنمائه: فيأخذ الثدي ويميزه بطبعه من سائر الأعضاء بفمه، دون سائر أعضائه.. ثم ذكر: أنَّ أول ما يحدث للنفس إذا قويت من التمييز الذي ينفرد به الناطق من الحيوان: فهم ما أدركت بحواسها الخمس، كعلمها: أنَّ الرائحة الطيبة مقبولة من طبعها، والرائحة الرديئة منافرة لطبعها، وكعلمها: أنَّ الأحمر مخالف للأخضر والأصفر والأبيض والأسود والفرق بين الخشن والأملس والمكتنز والمتهيل، واللزج، والحار والبارد، والدافئ، وكالفرق بين الحلو والحامض والمر والمالح والعفص والزاعق والتفه والعذب والحريف وكالفرق بين الصوت الحاد والغليظ والرقيق والمطرب والمفزع.. قال أبو محمد: فهذه إدراكات الحواس لمحسوساتها، والإدراك السادس علمها بالبديهيات فمن ذلك: علمها بأنَّ الجزء أقل من الكل؛ فإنَّ الصبي الصغير في أول تمييزه إذا أعطيته تمرتين بكى، وإذا زدته ثالثة سر وهذا علم منه: بأنَّ الكل أكثر من الجزء، وإنْ كان لا ينتبه لتحديد ما يعرف من ذلك.. إلى آخر كلامه.. انظر المصدر السابق ص137 عن البرهان.. وأما معرفة النفس بتجربتها فكما قال إمام الحرمين أبو المعالي الجويني في كتابه (البرهان): إذا قدر الواحد على التقلب في الجهات فيعلم من نفسه حال القادرين بداهة، ووضوح ذلك يغني عن الإغراق فيه..انظر كتاب (الفصل في الملل والأهواء والنحل) لأبي محمد على بن حزم 7م صبيح عام 1384هـ ج 1م 1 ص5، و6، و7.
قال أبو عبد الرحمن: مصادر المعرفة عند (الجويني) فيما عدا السمع هي: العقل، والحواس، والنفس وهو قد غلط إذ جعل الحواس شيئاً غير النفس، وقصارى القول: إنَّ ما تعرفه النفس بحواسها وتجربتها هو أوَّل مصادر المعرفة؛ لأنَّ النفس تعرفه منذ خروجها إلى العالم، وأبو محمد- رحمه الله تعالى- قد غلط أيضاً؛ إذْ جعل البديهيات من إدراكات النفس، والصحيح أنها من مقدمات العقل، ومما يعلمه العقل بالضرورة؛ فالطفل في أول تمييزه، وفي سروره إذا زدته تمرة ثالثة وإنْ لم ينتبه لتحديد ما يعرف من ذلك: إنما سر لأن ذلك أول تمييزه بعقله، وليس ذلك مما يصح أنْ يقال إنَّ النفس أحسته، أو هو من إحساسات النفس، والظاهر أنَّ أبا محمد تنبَّه لذلك حيث ساق جملة من البديهيات، ثم قال أبو محمد: فهذه أوائل العقل.. ويرى أبو محمد: أنَّ إدراكات النفس وبداهة العقل: «ضرورات أوقعها الله في النفس ولا سبيل إلى الاستدلال البتة إلا من هذه المقدمات، ولا يصح شيء إلا بالرد إليها فما شهدت له مقدمة من هذه المقدمات بالصحة: فهو صحيح متيقن، وما لم تشهد له بالصحة فهو باطل ساقط».. ويقول قبل ذلك: «أنه لا سبيل إلى أنْ يطلب عليها دليلاً إلا مجنون أو جاهل لا يعلم حقائق الأشياء ومن الطفل أهدى منه؛ لأنَّ الاستدلال على الشيء لا يكون إلا في زمان ولابد ضرورة أنْ يعلم ذلك بأول العقل؛ لأنه قد علم بضرورة العقل: أنه لا يكون شيء مما في العالم إلا في وقت، وليس بين أول أوقات تمييز النفس في هذا العالم وبين إدراكها لكل من ذكر مهلة ألبتة، لا دقيقة ولا جليلة، ولا سبيل إلى ذلك».. والظاهر أنه لم يمار في هذه المقدمات إلا السوفسطائية الذين يبطلون الحقائق، وقد أحكم أبو محمد الرد عليهم في صفحتي 8 -9 من كتابه (الْفِصَل) الجزء الأوَّل.. ويرى (سقراط): «أنَّ العلم لدني ينبع من النفس والعقل، وأنه موجود بالقوة يعني بالإضمار والخفاء، وفي داخل النفس، وأنه يخرج إلى حالة الوجود بالفعل فلا يحتاج في ذلك إلا لمن يحركه بالأسئلة الموجهة». قال أبو عبد الرحمن: هذا صحيحٌ لو قال بدل العلم لدني (المعرفة لدنية) على اصطلاح المناطقة في التفرقة بين المعرفة والعلم.. أعني إحساس النفس وبداهة العقل، أما أنَّ العلم النظري موجود بالقوة، فلا مماراة في بطلان ذلك الزعم ولو كان صحيحاً: ما لهث الإنسان وراء البرهان.. وأيضاً: فالإنسان يطلب البرهان فلا يدري هل يسعفه على صحة ما يتصوره، أو يقوم على بلان ما يتصوره، فكيف كان العلم (لدنياً)، أو بمعنى آخر: هل يقال للإنسان: عالم قبل أنْ يجد البرهان ؟.. وأما أنَّ غريزة العقل وتهيؤ النفس للإحساس والتجربة موجودان داخل الإنسان فذلك ما لا ينازع فيه العقلاء؛ ولذلك حديثٌ في مناسَبةٍ قادِمَةٍ إن شاء الله تعالى، وختامُ الْمِسْكِ مِن كُتَيِّب (مناسِكُ الحجِّ والعمرةِ بهذا القُنوتِ الجليل: دعاء دخول مكة إذا عاين الحاجُ بيوتَ مَكَّةَ فَلْيَقُل: بسم الله الرحمن الرحيم اللهم اجعلْ لي بها قراراً، وارْزُقْني فيها رِزقًا حَلالا، اللهُمَ إنَّ هذا الحرَمَ حَرَمُكَ، والبَلَدَ بَلَدُكَ، والأمنَ أمنُكَ، والعَبدَ عَبدُكَ، جِئْتُكَ مِنْ بِلادٍ بعيدةٍ بِذنوبٍ كَثيرَةٍ، وأعمالٍ سَيّئَةٍ، أسْألُكَ مَسْألَةَ المُضطَرينَ إلَيكَ، المُشْفِقينَ مِنْ عَذابِكَ، أنْ تَسْتَقبِلَنِي بِمَحضِ عَفوِكَ، وأنْ تدخِلَنِي فَسِيحَ جَنَّتِك جَنَّةَ النَّعيمِ.. اللهُمَ أَنَّ هذا حَرَمُكَ وحَرَمَ رسولِكَ فَحَرّمْ لَحمي ودمي وعَظمي على النار.. اللهم آمِني مِنْ عَذابِكَ يومَ تَبْعَثُ عِبادكَ؛ أسْألكَ بأنَّكَ أنتَ اللهُ الذي لا إلَهَ إلا أنتَ الرَّحمنُ الرحيمُ أن تُصَلِيَ وتُسَلِمَ على سيدِنا محمدٍ وعلى آله وصَحبِهِ وسَلَمَ تسْليماً كثيراً أبداً.. هذا الدعاء يقرأ عند الدخول من باب السلام اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ وَمِنْكَ السَّلامُ؛ فَحَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلامِ وَأَدْخِلْنَا الْجَنَّةَ دَارَ السَّلاَمِ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ يَا ذَا الْجَلاَلِ وَاْلإكْرَامِ، اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ ومغفرتك وأدخلني فيها بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا عاين البيت الشريف: هلل ثلاثاً وكبر ثلاثاً، ثم يقول: لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، لهُ الْمُلْكُ ولهُ الحمدُ وهو على كلِ شيءٍ قديرٌ: أعوذُ بربِ البيتِ مِنَ الكُفرِ والفَقرِ ومِنْ عذابِ القَبرِ وضَيقِ الصدرِ وصلى اللهُ على سيدِنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصَحبِهِ وسَلِمْ.. اللهم زد بَيتَكَ هذا تَشريفاً وتكريماً وتعظيماً ومَهابَةً ورِفعَةً وبِرًا، وزِد يا ربِ مَنْ شرّفهُ وكرّمهُ وعَظمهُ مِمنْ حَجهُ أو اعتَمَرَهُ تشْريفا وتكريماً وتعظيمًا ومَهابَةً ورِفْعَةً وبِرا.. وإلى لقاءٍ قريب إنْ شاءَ الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم: (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين