د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** «الكاتب الحقُّ لا يَكتبُ ليَكتب»، عبارةٌ موحيةٌ للرافعي، مضيفًا أنه -أي الكاتب- «أداةٌ في يد القوة المصوِّرة لهذا الوجود...»، ممثلًا رؤيةً وعاها جيلنا الذي وجد توقَه الفتيَّ زمن التكوين ممتدًا ببيان صاحب «وحي القلم»، مقتنعًا أنه الاختيارُ الأمثل الذي يُرضي ذائقتَه الفطرية دون أن يُجهد َذاكرتَه في تمثل اسمِه ورسمِه، بل إن فينا من صنع من نطقه ومنطقه حَكمًا بين ذوي التقليد والتجديد؛ فأمير البيان العربي -كما يصفه مُحبوه- هو نفسُه المهذار الأصم - في رأي مناوئيه، والمساحة متسعةٌ له كما لسواه ليُرَوا ضمن حديّة الحبّ والكُره، وضديّة التراث والحداثة، كما يُدَّعى.
** لم ينتفع الفاصلون ولم يمتنع الواصلون، ولعل صراعَهما هو الكذبةُ الكبرى التي أعاقت الأجيالَ من فهم لغة التكامل، وقد أبقت تداخلاتُ الزمن مصطفى صادق الرافعيَّ 1880- 1937م - وهو مثلٌ عابرٌ هنا - تراثيًا، وأشركت معه طه حسين 1889 -1973م الذي صار تقليديًا في تصنيف الجيل التالي، وكذا يفرض الزمن إيقاعه التبادليَّ القادرَ على لجم المسافاتِ بين محطات الفكر.
** ليكن هذا أو بعضَه؛ فالمغزى عبارةُ الرافعي: «الكاتبُ الحقُّ لا يكتبُ ليَكتب»، ولو أُخذت لتحديد معالم الكاتب لكانت حاسمةً في التفريق والتدقيق والتوثيق، وبخاصةٍ حين سام الكتابةَ من وعى ومن ادّعى.
** الكاتب ذو قضيةٍ ومهارةٍ وموقفٍ ومعرفةٍ ومنهجيةٍ وأسلوب تدعوه طوعًا ليحملَ رسالتَه بتوجيهٍ خفيٍ؛ فكذا يمكن فهمُ جملة الرافعيّ وتحليلُها في زمنٍ لم يألفْه مَن كان بإمكانهم عدُّ كُتَّاب مرحلتهم وتقويمُ مستوى كتاباتهم وتقديم معلوماتٍ عنهم؛ ويُعوزُنا هذا بعدما تكاثر الكتبة دون معايير أو غاياتٍ فسادوا وقادوا وما أجاد بعضُهم ولا أفادوا، أما لماذا؟ فلأن الكاتبَ يوقن أن المدحَ لا يُشعله والقدح لا يُشغله، وكلماتُه الأولى مبتدِئًا هي كلماته الأخيرةُ منتهيًا؛ فلا يجدِّفُ ولا يحذف، ولا يمزق ولا يُرتّق.
** حماه نورُ الله وحداه صدقُ مرماه، يزنُ بعدلٍ وتحكمه قيم؛ أكتب في الفضاء أم القضاء، وفي الشعر أم الشعير، وفي الجَمال أم الجِمال، فلا يستجدي النشر ولا يستعدي الناشر، ولا يُشهِّر ولا يسعى ليشتهر، ولا يعنيه متبوعون ولا يؤمن بتابعين.
** ظُلم الرافعيُّ في زمنه، وامتلأت الأزمنة بمن حقُّهم الظهور فاندثروا، ومَن شأنُهم الانطفاءُ فانتشروا، وللتأريخ حكمٌ قد يختلفُ ليظلَّ الكاتبُ الحقيقيُّ تحت مظلة الموهبة لا الهبة والرسالة لا الاسترسال، ولعل مَن يطلع على مواصفات الكاتب ومعادلات الكتابة في الثقافات المختلفة سيرى دربَ الكلماتِ قفرًا؛ فهي أشبهُ بمن يشاءُ خلقَ بحرٍ في الصحراء أو تكويمَ رملٍ في الفضاء.
** بين أن يكتبَ كاتبٌ فيكتئبَ قارئٌ أو يتوازيان في رحلةٍ عقليةٍ ووجدانيةٍ وقف الرافعيُّ ونقفُ موقنين أن فيما يسمى كتابةً أو ممن يتسمون كُتّابًا لم يمرُّوا من مضيق الهوية فاستغرقتهم فضاءات الهوى.
** الكاتبُ مجرةٌ لا مبرّة.