اطلعت على موجز نصائح من المدقق اللغوي الأستاذ (هاني الجهني)، وقد وجّهها لنوعية هو حددهم بمن بلغ أشده من العمر، وما فوق، مبتدئًا -أكرمه الله- بالدعاء «متعكم الله بالطاعة والصحة والعافية». وهي موجهة لتلك الفئة العُمرية. وأذكر منها:
بقدر الإمكان لا تستخدم السيارة إلا للضرورة قصوى.
حاول الوصول على قدميك لما تريد (المسجد، البقالة، زيارة أحد..) أو أي هدف.. إلخ.
وأملي متممًا بما يناسب مادة النصيحة.
عمومًا، النصائح كثيرة، وحتى موجزاتها.. التي تكثر دون أن يشعر الناصح حين يسطرها. ولا عجب؛ فقد ذكر أحد المربين أنه حاول وضع مدوّنة نصائح، أخذها من خبرته بالحياة؛ ليرسلها في يوم لابنه؛ فمضى يكتب، ولم يفق إلا وقد تجاوزت المئة..! فتوقف.
وهنا نذكر ما قيل عن (العلم كثير ولن يعطيك بعضه حتى تعطيه كلّك)..
إذًا النصائح كثيرة، حتى تلك «الموجزات» منها. ومن أراد أن يُقبل نصحه - وللتذكير- فإن القبول لا يعني الاستماع فقط، بل العمل بها. وكم استلطفت كثيرًا قول أحد المؤلّفين: «أجمل ثمن يقدمه لي القارئ لكتابي أن يقرأه. ويزداد قدره عندي إن وعى ما فيه فـ(عمل به)».
ومن هنا نُورد ما يلزم ساعتها بأن لا يكثر منها، أو ليقدمها. ويحبّذ أن تقدَّم كـ(علاج) بجُرعات، يستفيد منها، ولا تضيع بالصدى، بل خلاف هذا المنحى لا يضجر إن لم يؤتِ طاعة. وليأخذ من معلّم البشرية - صلى الله عليه وسلم - مسلكًا حيث كان نبي الأمة -صلى الله عليه وسلم- ينحو.. فمن حديث أبي وائل شقيق ابن سلمة -رحمه الله- قال: كان ابن مسعود يذكِّرنا في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبدالرحمن، لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، فقال: «أمَا إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أُمِلَّكم، وإني أتخولكم بالموعظة، كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتخولنا بها مخافة السآمة علينا» (متفق عليه). وكذا صرّح غير ملمّح بها الصحابي. فمن لا يتخذ من منهج الأسوة - عليه الصلاة والسلام -. ففي البدء ننصح الناصح بأن يسلّم للملل، واليأس -ربما- قبل أن يتوقف بيومٍ معللاً: لقد بذلت وكللت، والناس لا تقدر و..!
فهذه -يا رعاك المولى- أولى مراحل الخذلان لنفسيتك، بل هاك من قصة ذي النون يوم {ذَهَبَ مُغَاضِبًا}، وكان أن {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ}. وهنا أُشير لأعظم بلاء ابتُلي به الأنبياء، وهو اليأس من استجابة أقوامهم لهم {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ}.. في تلك المرحلة فقط يتدخل القدر الإلهي {.. جَاءهُمْ نَصْرُنَا}.
هذا، وكيف بهم (الأنبياء) وهم يدلّون أقوامهم إلى طريق السعادة بالأولى، والنجاة بالآخرة، ويردّ بعضهم كهذا الخير العميم الذي يأتيه دون أن ترفّ له عين!
فكيف بالحال مع مَن هم دون الأنبياء قدرًا؟!
وهنا لا بد للناصح من اتخاذ سبيل الصبر ملجأً، والتحمُّل مركبًا.. فقد أتى من شروط بذل العلم الصبر على الأذى الذي يصحب تبليغه، فلا تظن أن الناس سوف تستقبلك بالورود بمجرّد أنك تبذل لهم الخير؟!
وحسبك أيها المؤمن آيات من سورة العصر لهمّتك دافعات، حين حمدت {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، وخُتمت بـ{وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}؛ فاقتران الحق بالصبر هنا دليل جليّ على وجوب استحضار الصبر كـ(معين) لإتمام المهمّة. ومما يناسب هذه السورة ما جاء في قول الشافعي عنها: «لو لم ينزل إلى الناس إلا هي لكفتهم».
ولعل بجلاء من الضرورة بمكان حول هذا القول هو (من باب الاستئناس، وليس للاحتجاج به).
هذا، وقد جاء في (الشرح المختصر لمتن الأصول الثلاثة)، وبعد ذكرها كلها العلم والعمل به والدعوة إليه.. ما ختمت بـ(الصبر على الأذى فيها)، وإلا فلا يجزعن (الناصح) إن لم يؤتَ طاعةً.. أي من لا يتخذ من الصبر شراعًا يتجاوز به غلاظةً من...!
وهنا أهمس في أذن الناصح: لا، لا أثقل من النصيحة (وإن كان فيها النجاة)؛ فحسبها أنها تنزع المرء من رغائبه والأهواء.
نقطة أول السطر:
{قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}. أي ما بعد هذا الإيضاح من إيضاح.