د.فوزية أبو خالد
6 / سبتمبر / 1926 كتاب الشاعر الإسباني لوركا عن نيويورك
اليوم 6 / سبتمبر 2020
يفصل بين كتاب شاعر في نيويورك وأخيلة كتابي «شاعرة في نيويورك» تسعون عاماً، وأكثر من حرب كونية من السافر للمستتر، وما لا يحصى من الجرحى والضحايا والعشاق والفرسان والقراصنة وتجار الحروب والمحاقات المكتملة والبشرية الناقصة، الطفولة الملاحقة والشيخوخة الهاربة والشباب المتشظي، محبي العدل والنور وحلفاء الظلمة والظلم، الخليل المخلص والخليل الخائن, الأقنعة والوجوه، الجوع والشبع، الصحة والمرض، الزحمة والوحدة، ولكن قد يكون مشتركهما غير غواية الشعر وغير كمين المكان الذي تمثله مدينة نيويورك مشترك ثالث، وهو تجربة الكتابة من قلب الوحدة في محيط من الزحااااااااااااااااام.
**********
أخرج من مطار «جيه اف كيه» * جاحظة العينين لكثرة ما راقبت من استجواب فظ لبشر مشتبه بهم لمجرد أنهم لا يشبهونهم. سيدة مسنة بشرتها المائلة للكاكو تثير حنق أحدهم، شكل العمامة على رأس شاب حليق يستفز شخصاً - ما -، ضفيرة طفلة مجدولة بزيت النارجين تثير حساسية الغضب لشخص متململ يقف بجوار الشخص المستفز، شرر يتطاير من عيون مدربة على الشك في البشر.
أخرج من مطار نيويورك متقززة، ولكثرة ما رددت قصة بصماتي القديمة في ملفات الجامعة بالشمال الغربي، كنتُ طالبة مجتهدة في مدرسة المشاغبين، كنتُ طالبة مواظبة على حضور المظاهرات في غياب العدل. لم تكن تهمتي إلا التمرد على الحروب تؤكد لهم حزمة قصائدي المكتوبة باللغة الإنجليزية مباشرة أو المترجمة لها من قبل مترجمين هواة مرهفين عن اللغة العربية لو كانوا يقرؤون.
في الطريق إلى منهاتن أقلِّب بصري في سماء مشجرة بغيوم فضية إلا أنها تبدو مسترقة خجلى من بين الجسور العالية والمباني العامودية المسماة عن استحقاق بناطحات السحاب، وكأن قلب المدينة يحذر العابرين من تلك العتمة المظلمة التي تنتظرهم حين تزحف العمائر على العمائر، ويطبق كل منها على الشبابيك العالية المقابلة له حتى يكاد أن يخنق الضوء وإن كان الوقت في وضح النهار.
قبل أن أشفى من رضوض العنصرية المغلفة بغلالة لا تخفيها من لحظة مغادر الطائرة وقبل أن أستسلم لأرق فارق التوقيت، بل وقبل أن أستوعب رضوض ذلك الشوق الذي أخذ يستبد بي إلى بيتي بالرياض قبل أن تطأ قدماي بيتي على ناصية الجادة الأولى، رميتُ حقائبي في ردهة مدخل العمارة ذات الاسم الرومانسي «قاعة النهر» الذي لا ينطبق على حسنها الطاعن في العمر، واتجهتُ إلى النهر شخصياً وليس لأماكن مشتقة بغير دقة من اسمه.
أتجه إلى النهر الشرقي.. وحده النهر يميزني بكتابي وعكازاتي ونظارتي الشفيفة البنفسجية دون تمييز ضدي
أمشي على حافة الماء مترعة بالحنين وكأنني غبت عنه عشرة أعوام، مشدودة القامة أمشي وكأنني أقلد بطولة قصيدة توفيق صايغ وأضيع في الزحام.
أترك النهر يحكي لي كل ما فاتني من قصص مقاومة العنصرية الممنهجة كما يسميها كومو حاكم نيويورك.. تمشيط الجادة الخامسة بشعارات حياة السود مهمة، الاعتصامات لأيام
أمام مبنى البلدية، تحطيم التماثيل، جروح موسيقى الجاز والبحة الجارحة في هديل الحمام
ليس من يسأل المدينة... كيف تعيش نيويورك على نعمة تعدد الأطياف واللغات والأمزجة، وفي نفس الوقت تتعايش مع قسوة العنصرية. أطوي صفحة الأمس وأخزنها في الشق الملتبس من شريط الذاكرة وأمضي لشأني.
****
أحشر نفسي في التاكسي الأصفر، وكأنني ألبس ثوباً رثاً، وأمشي في كوكب مصفح بالقلق والأضداد وتلاحق المتغيرات، يمر التاكسي بتايمز سكوير فلا تقع عيني من المناظر السياحية إلا على أولئك المنعكفين على الأرصفة يكلمون أنفسهم.
لا تقع عيني إلا على أولئك الرجال الأشداء بأزيائهم الإفريقية الفاقعة و»بساطنهم المتحركة» من الماركات المقلدة وهم يلعبون لعبة توم وجيري مع البوليس.
لا تقع عيني إلا على الإعلانات الوحيدة التي أتسامح معها لمسرحيات أحفظ حواراتها ومسارحها واحداً واحداً على جانبي البرود ويه.
أتمتم في سري سامح الله كولمبوس والسيارة تقف عند ساحته من شدة الزحام لا تتذكر ما هي فعلته التي جعلت له مثل هذا الميدان أو السبب الذي جعل هناك يوم عطلة رسمية باسمه.
ألمح فرقة موسيقية تعزف أمام مركز لنكون، إلا أنني لا أسمع صوت الموسيقى لأنني أضع سماعة هاتفي في أذني وأستمع لبود كاست ثمانية قبل أن أصل مقهى ستار بوكس بين ستار بوكس وستار بوكس على شارع ليكسنتون وشارع 46 أوقف التاكسي وأهبط من العربة سائرة في حال سبيلي، أصادف مظاهرة مهلهلة من بقايا الستينات لا ألتفت لها إلا بقلبي فيما أمضي مبتعدة عنها وكأنني أخشى أن التحق بها بالخطأ، كما يلتحق طالب طب رصين بفرقة غجرية للغناء.
أخيراً أصل إلى ضالتي أو هكذا يخيل إلي.
****
في مبنى الأمم المتحدة
أيام لمختلف القضايا والأماني والوعود
يوم الطفل
يوم المرأة
يوم السلام
يوم السعادة
يوم الشعر
يوم الأوطان
يوم الصحة
يوم الرضاعة الطبيعية
يوم الحنان
يوم مقاومة العنف
يوم مقاومة الحرب
يوم القضاء على الفقر
أيام على مدار العام
لا تكفي لتضميد جرح
لا تكفي لاستدارة برعم
لا تكفي لمدة جناح
يركض الوقت
ولا تكفي الأيام
تمد الأمم المتحدة يدها
المزينة بالأعلام
وتستعطي زمنا
يبدأ العد التنازلي في ساحة التايم سكوير
ليضع نهاية صاخبة للعام
لا أحد يسمع أحداً
فيما نيويورك تشتعل
ومبنى الأمم المتحدة
غارق في ظلااااااااااام
*******************
في مبنى الأمم المتحدة
أرقب وفوداً زائرة تتشح أوسمة ملابسها التقليدية، يذرعون الأروقة كأنهم في حالة تيه أو انتظار
أرقب الموظفين يتحلون ببزات رسمية، ويركضون بين المكاتب والقاعات كأنهم أضاعوا ضالة
أرقب السياح الطلاب الصحفيين يزنرون السور على امتداد جادة الشارع الأول، ويستفردون وحدهم بمتعة الأسئلة
في مبنى الأمم المتحدة
تستبدل العيون بالكاميرات
يستبدل الكلام بالإشارة
يتحدث الصمت عدة لغات
بين مشغول بالتقاط الصور
وبين سادر في وحدته
أو تائه في الزحام
في مبنى الأمم المتحدة
هدايا ثمينة
لوحات عالمية
سجاجيد منسوجة بالعرق
شعارات فارهة
بوسترات دامعة
أعلام منتشية
وأعلام مجروحة
وليس من ينسى ابتياع تذكار
في مبنى الأمم المتحدة
جنديات مجهولات
جنود لم يطلوا على الشاشات
أسراب حمام تبحث عن سماء
أشجار زيتون تبحث عن حقل
أطفال يبحثون عن طفولة
حياة تقاوم جحيم الحروب
بأخيلة السلام
والمبنى المهيب كأنه في نيويورك
لكنه مقيم دائم
بين مهب القوى
***********
في طريق عودتي أحمل صندوق بيتزا وكوب قهوتي الورقي كأي نيويوركية عريقة
إلى الصب ويه
في الطابق السفلي من المدينة
أناس يغتصبون الابتسامة
ناس يركضون نحو مصائر
لا يعرفون مصيرهم فيها
ناس متعبون من رحلة لا يعرفون طولها
ناس سئموا السير على نفس الطريق يومياً
دون أن ينتهي بهم لمكان
وناس ملوا أن نفس الطريق يأخذهم لنفس المكان
ناس لا يستطيعون السير على طريق رسمت لهم
ولا يستطيعون تغيير مسارهم
ناس يريدون أن يصلوا بأي ثمن
وناس يتأففون من سرعة القطار
ناس يبنون أوكاراً في المحطات
ناس يعزفون موسيقى حالمة
ولا أحد يلتفت إليهم
ناس يتنمرون كقناصة محترفون
وناس وجلون كضحايا مدربة
رجل يعري رجلا بعينيه
فتاة تتصدق على من هي أفقر منها
شابات وشباب يركضون بتوثب لوجهة واضحة
يتأبطون حقائب لاب تاب ماركات
سيدات مسنات يخطرن رجال على كراسي متحركة
طلاب جامعات في عدة اتجاهات لا يلوون على شيء
الكل رأسه في الجهاز وأذناه في السماعات
لا أحد يقف لأحد
لا أحد يستوقفه أحد
لا أحد يسترعي انتباه أحد
وحدي أرقب الطريق السفلي بتأمل عميق
وكأن المشهد كتاب
من لحم ودم
من أصوات وصمت
يأتي قطار ويذهب قطار
ولعل أحدهم قطاري
غير أني وأنا غارقة في القراءة لا أنتبه لوقت مغادرتي