عبده الأسمري
تجتاح العقل يوميًّا المئات من محركات البحث الذاتية التي تحركها المواقف أو الوجوه أو الذكريات أو المشاهد.. فنسترجع الماضي، ونخضع الذاكرة إلى استعادة ما مضى، وإعادة ما فات في فصول ومراحل وأبواب، نقف أمامها أحيانًا، ونتوقف حولها غالبًا، ونصمت بشأنها دومًا؛ فينطلق من داخلنا «دوي» الندم، أو «صدى» الفرح، أو مدى «الاعتبار».. وتسير الحياة، وتمضي مراحل العيش رغمًا عن ويلات «التأنيب»، ولاءات «الترهيب».
تمثل «المعرفة» السر الخفي والجهر المعلن في محطات العمر؛ فمنها يتعلم الإنسان، وفيها يسمو البرهان، وبها يتميز البيان.. فتكون «المحرك» الأول للانطلاق في كل دروب الحياة بأنفاس طويلة لجني نفائس أصيلة من كنوز «الفوائد» ومن خزائن «المنافع».
يجب التفريق بين «معرفة» جاهزة تعد شرطًا للحصول على التعليم والشهادة والوظيفة.. وهذه من جعلت «التلقين» مقيمًا في مدارسنا، ثاويًا في مناهجنا.. وأخرى مكتسبة، تُعد منبعًا للوصول إلى الابتكار والتجديد والتطوير.. وهي الموجودة في ثنايا «الكتب»، والحاضرة في عطايا «التفكر»، والناضرة في هدايا «البحث»، ينالها الإنسان بكفاحه الشخصي، وهمته الخاصة، وذاته الطموحة..
يولد الإنسان على الفطرة، وتظل نقطة «عودة» مهما مرت السنون.. فالطبيعة غالبة، والأصل غلاب؛ إذ يولد الطفل ضعيفًا، ثم يشتد عوده، ثم تقوى جهوده؛ فيصل إلى أعلى مستويات «القوة» في شبابه، ثم يأتي العد التنازلي؛ لينزل إلى فطرته من «سلم» العمر الذي يأخذ اتجاهين ما بين الصعود والهبوط.. في كل هذه المنظومة العمرية تأتي «المعرفة» كملاذ آمن وملجأ أمان من مكائد الجهل ومصائد الأخطاء.
تلعب المهارة والموهبة والتربية دورًا ثلاثيًّا مذهلاً في توجيه «الرغبات» نحو «الأمنيات»، وتحويل «الأحلام» إلى «المهام»؛ فتدور عجلة «الكفاح»،
وتعلو كلمة «النجاح» في دروب القيم ومنصات التقييم.
المعرفة منبع يحتضن في أعماقه كل موجهات العلم واتجاهات التعلم، تنهل منه البشرية من شتى أنواع المؤلفات وأصناف العلوم وأبعاد الأبحاث وأسس النقاش وأصول التحليل.. وهي اليقين الذي نقطع به «شكوك» الحيرة أمام موجات «التساؤلات» الخاصة بالإنسان، أو المختصة بالمخلوقات.
عندما يتشرب الإنسان المعرفة؛ لتلامس عمق اهتمامه، وتمس أفق همته، فإنه سيتحول إلى «كائن» منتج، و»عنصر» مثمر في معادلة الحياة.. ويكون له إنتاجه ونتاجه وقيمه وقيمته التي ينطلق منها ليبنى «صروح» الخير في كل اتجاه في حياته أو مع الآخرين..
يقضي المتيمون بالمعارف جُل اهتمامهم في مصاحبة «الكتب»، ومرافقة «المجلدات»، والاستئناس برائحة «الورق»، ووقع «الأقلام».. وهو ما يسهم في غذاء عقولهم، وعطاء أرواحهم، وسخاء فكرهم؛ فنجدهم بعيدين عن «المساحة البائسة» المكتظة بتضييع الوقت، وتبديد الزمن، التي يصنعها «البؤساء» الغارقون في جدالات الحياة ومجادلات التعامل.
المعرفة تعيد الإنسان إلى سيرته الأولى، وسجيته المثلى، تُطهره من شوائب الجدل، وتنقيه من رواسب الجدال، تهذب صفاته، وترتب أولوياته، وتبرمج ذاته، وتنظم مهماته، وتجعله أكثر وعيًا بفطرته الماثلة في حيز «الصفاء»، وأعظم فهمًا بطبيعته المقيمة في عمق «النقاء».. بها يتدارك أخطاءه، وفيها يستدرك عطاءه؛ فيتشكل في سلوكه «الانتماء»، ويتمثل في مسلكه «النماء».
بين الإنسان والمعرفة تجاذب بين المعنى والسلوك؛ فالمعارف مضادات نفسية عجيبة لمواجهة الصدمات، ومجابهة الأزمات، والنهل من التجارب.. وتسهم في صناعة الشخصية النافعة والناجعة، التي ترسم «مشاهد» السخاء الفكري والعطاء العلمي.. والدليل ما نراه من تواؤم بين الرقي السلوكي والثقافة الإنسانية.
تجذب المعرفة «الإنسان» من ترهات الفارغين، ومن مهاترات الجاهلين؛ ليملأ وقته بمتون «الفائدة»، ويجدد نشاطه بشؤون «المنفعة»؛ فتكتمل في ذهنه معاني «التأثير»، وتتعالى في شأنه مغانم «الأثر»؛ ليكون عضوًا مستوطنًا سجلات «المؤثرين»، مضيفًا إلى رصيد المجتمع «رقمًا» إيجابيًّا، يرجح كفة الفارق.
«المعرفة» غاية مثلى.. تسهم في رقي الإنسان، وسمو الشخصية، وتهذيب «التعامل»، وتنقية الأنفس، وتصفية القلوب، وتغذية العقول، وبهجة الخواطر.. ولها مفعول عجيب في اتزان السلوك، وتوازن القول، وتكامل الفعل في كل المثيرات والاستجابات، وجميع السلوكيات والمسالك.